لم أكن فى مصر عندما اندلعت حرب أكتوبر لتزيح آثار النكسة التى حدثت نتيجة التحالف الإسرائيلى الأمريكى المُعادى لعبدالناصر مع ربيبتها وحليفتها إسرائيل، لكن يبدو أننى كنت على موعد مع القدر.
كنت متوجهاً إلى «جنوة» حيث وصلتها يوم الحادى عشر من أكتوبر، وعلمت أن السفينة المصرية «الجزائر» ستغادر جنوة إلى الإسكندرية، ولم يكن للناس على ظهر السفينة حديث غير اندلاع الحرب وتحقيق الجيش المصرى انتصارات على ما كان يقال له «الجيش الذى لا يُقهر» كناية عن جيش إسرائيل، وتحول ركاب السفينة جميعاً إلى ما يشبه الأسرة الواحدة التى تعيش لحظات من الترقب والانفعال وانتظار الساعات التى يستطيع فيها الجيش المصرى أن يغسل ما لحق مصر من هوان فى يونيو 1967 نتيجة الحلف الأمريكى الإسرائيلى الذى جرّ وراءه المملكة المتحدة وفرنسا أيضاً. كانوا جميعاً يريدون أن يتخلّصوا من جمال عبدالناصر ومن أحلام جمال عبدالناصر، ولكن الجيش المصرى الباسل، الذى وضع عبدالناصر من غير شك أُسس بنائه الجديدة وقاده من بعده باقتدار أنور السادات، حقق معجزات أكتوبر.
وفى الرابع عشر من أكتوبر رست السفينة فى ميناء الإسكندرية ورأيت الميناء غير الميناء والناس غير الناس، إن روحاً جديدة قد انبعثت فى كل شىء.. يا الله!! أى روح جديدة سرت فى هذا الشعب؟.
وما هى العوامل التى أدت إلى هذا البعث الجديد؟
تقديرى أن هذه العوامل كانت ثلاثة:
1- الجدية.
2- التحدى.
3- التضامن العربى.
أولاً: أما الجدية فكان أوضح مظهر لها ما تم من إعداد لحرب أكتوبر. لقد تمت دراسة كل شىء دراسة علمية ووُضع على رأس الجيش وفروعه المختلفة قادة محترفون من ناحية ومؤمنون ببلدهم من ناحية أخرى ويحسون إحساساً مراً بالجرح الذى انتابهم نتيجة نكسة يونيو 1967 من جهة ثالثة.
لقد بدأ الإعداد لكيفية اجتياز خط بارليف هنا بالقرب من القاهرة عند البدرشين، حيث بدأت تجارب على الفرع الغربى للنيل، وأقيم ساتر ترابى ضخم على إحدى الضفتين ثم بدأ سلاح المهندسين– يجرب ما اقترحه بعض المتخصصين منهم من أن مدافع الماء هى الكفيلة بخلخلة الحاجز الترابى المتمثل فى خط بارليف الذى كان يظن البعض أنه من الحصانة بحيث لا يمكن قهره، على حين كان قهره ميسوراً بخراطيم الماء المتدفق بقوة. كان هناك عمل جاد وعزم جاد وإحساس شديد بالمرارة عبّأ هذه المشاعر كلها وجعلها تندفع بكل جدية لكى تواجه ما كان هناك من تحدٍّ إسرائيلى أمريكى.
وهذا هو العنصر الثانى:
عنصر التحدى إذا كان الشعب المصرى كله والجيش المصرى بكل وحداته يشعرون جميعاً أنهم يمرون بظرف خطير يوحى بأن نكون أو لا نكون. أن ننتصر أو أن نعيش فى هوان أبدى. أن نغلب الجيش الذى كان يقال عنه إنه لا يقهر والذى تم قهره فعلاً نتيجة الجدية والإرادة والشعور بالتحدى المصيرى.
أما العنصر الثالث- الذى أدى إلى تحقيق النصر فى حرب أكتوبر- فهو موقف الملك فيصل بن عبدالعزيز، ملك المملكة العربية السعودية، رحمه الله رحمة واسعة، والذى لم يتردد فى استعمال سلاح البترول فى هذه المعركة المصيرية. وهو سلاح كان من شأن استعماله على نحو ما حدث فعلاً تجريد القوى المُعادية لمصر من أهم أسلحتها.
وهكذا كان الإحساس بالتضامن العربى بهذا الموقف من المرحوم الملك فيصل عاملاً حاسماً من عوامل نصر أكتوبر وروح أكتوبر.
والسؤال الآن: هل نستطيع أن نستعيد روح أكتوبر؟ وهل نستطيع أن نتصرف– وأقصد الشعب بكل قواه الفاعلة– كما كنا نتصرف أيام حرب أكتوبر على النحو الذى وصفته ووصفه كثيرون؟
المنطق يقول إن تحقق نفس المقدمات يؤدى فى الغالب إلى تحقق ذات النتائج.
هل هناك جدية وهذه هى المقدمة الأولى. أعتقد أنه فى قمة الدولة توجد جدية واضحة وتوجد رغبة صادقة فى تحقيق نتيجة حقيقية. ولعل ما تم بالنسبة لقناة السويس الجديدة– هدية مصر للعالم– تمثل عملاً جاداً بامتياز.
ولكن علينا أن نعترف أن الجهاز الإدارى العادى لا يتسم بهذه الجدية.
هذا عن العنصر الأول.
أما العنصر الثانى وهو التحدى. أعتقد أن هذا العنصر موجود وقائم وأن ما يحيط بالوطن من كل جانب هو نوع من التحدى. هو تحدى وجود كما قلت كثيراً ما حدث فى العراق وما يحدث فى سوريا وليبيا واليمن، بل وما يحدث داخل مصر نفسها من بقايا إرهاب وإهمال وتسيب يمثل أقصى صور التحدى.
أما العنصر الثالث وهو «العروبة» فأعتقد أنه يظهر حيناً ويختفى أحياناً. مع أن العروبة حقيقة وليست وهماً، فإننا لا نستطيع أن نقول إن الأوضاع العربية التى تحيط بنا هى على نحو ما نريد ونبتغى .
حقاً مازلنا نذكر أنه بعد ثورة الثلاثين من يونيو واسترداد مصر لأهلها من الفاشية الدينية الجاهلة، تؤذن ببداية توجه عربى. وعندما ذهب الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودية، رحمه الله، إلى فرنسا واستطاع أن يقابل رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه ويقنعه بأن ما حدث فى مصر فى 30 يونيو لم يكن انقلاباً عسكرياً كما كان يدعى البعض وأنه عمل شعبى بامتياز، هذا فى حد ذاته يُحقق العنصر الثالث من عناصر المعادلة.
إننا نستطيع أن نستعيد روح أكتوبر ونستطيع أن نبنى هذا الوطن ونصل به إلى ما يستحقه.
وإنه يستحق الكثير.
والله المستعان.