منذ أيام كنت في زيارة لصديقة ميسورة الحال تنعم بحياة رغدة مع زوجها المحب وأبناءها الرائعين، كانت تبدو مرهقة، ولقد ارتسمت هالات سوداء تحت عيونها تنم عن الأرق والإرهاق، ابتسامتها كانت فاترة وحديثها مبتور غير متدفق كعادتها، مما زاد من شعوري بالقلق حيالها، سألتها عن السبب، فأجابت بعدم مبالاة: «لا أنام بعمق، ساعات نومي أصبحت محدودة ومتقطعة، أستيقظ بصداع يظل معي لساعات طويلة، أشعر بخمول وعدم رغبة في الحركة من مكاني، وإجهاد دون أي نشاط فعلي، في أحيان كثيرة أضبط الموبايل على وضع «صامت» أنظر إليه وشاشته تضيء بين حين وآخر دون رغبة في الرد، لم أعد أرغب في متابعة الجرائد ولا شاشات التليفزيون.. أشعر أنه لاشيء سيفوتنى في العالم، كان من الممكن أن أعتبر أن حالة صديقتي فردية، وأنها في طريقها لمرحلة الاكتئاب، ولكن للأمانة هذه الحالة أصبحت منتشرة بيننا، بتوصيفات مختلفة، وحين نتقابل يبدأ كل منا في سردها للآخر، قال لي زميل عزيز مؤخرا واصفا حالته: «لم يعد شيء يفرحنى ولاشيء يفاجئني.. كل الأشياء تأتي وتذهب وأنا عنها ذاهل»، كاتب موهوب يزاملني في «المصري اليوم» كان أكثر عمقا وتفسيرا للمشكلة، حين سألته متى سيبدأ مشروعه الأدبي الذي حدثني عنه طويلا فقال: «عندما يخلو البال».
المصريون مشغولون البال، يعيشون قلقا مبهما، لا أحد يستطيع أن يحدد مصدره، لا الغني ولا الفقير، لا الحاكم ولا المحكوم، أنه مثل الضوضاء التي نعيشها والتلوث الذي نتنفسه، حاله تسرى في الجو لاتستطيع أن تراها أو تلمسها ولكن تستشعرها.
في منتصف ثمانينات القرن الماضي كتب يوسف إدريس عدة مقالات في الأهرام عن خلو البال، عندما عدت لقراءتها في كتاب منشور يحمل نفس العنوان، ابتسمت وقلت لنفسي: إذا كان إدريس قد شخص مشكلة المصريين في الثمانينات بأنها انشغال البال، الذي يعجزه عن الإبداع والتجديد والحركة والسعادة والبهجة، فماذا كان سيكتب لو عاش بيننا الآن!!.
ولكن الحقيقة أن مقالات يوسف إدريس لمست بعضا من أسباب هذا الداء العضال الذي أصابنا جميعا، ففي مقال لماذا البال غير خال؟ كتب ما يفسر حالنا الآني بدقة: «نحن قلقون لأن الحاضر يدعو إلى القلق وإلى عدم خلو البال، فالقلق من الحاضر في حد ذاته ليس قلقا خطيرا، أنه قلق وارد وجائز، القلق الخطير حقيقة هو القلق على المستقبل ومن المستقبل.. المستقبل هو مشكلتنا الدفينة التي نادرا ما نتحدث عنها أو بالأصح نتحدث عنها بأعراض مغلوطة، فنحن نشكو من أزمة المواصلات مثلا ولكن لو كان لدينا اطمئنان تام على أن الأزمة ستحل بعد عام أو حتى خمسة أعوام لما شكونا ولتحملنا، ولكن كيف نطمئن ونحن نرى الأزمة تزداد يوميا أمام أعيننا ونقرأ عن حل للمشكلة بإنشاء مصنع للسيارت ينتج ستين ألف سيارة كل عام، نتصور شوارعنا وقد أضيف إليها كل عام ستون ألف سيارة فنكاد نفقد الأمل تماما في حل أزمة المرور أو المواصلات، وقس على هذا بقية المشاكل التي نشكو منها اليوم، ولكن شكوانا سببها أننا لانرى لها حلا في المستقبل. إذا المستقبل هو مشكلتنا التي لانعي بها.
وللأسف وبعد مرورما يقرب من ثلاثة عقود على كتابة هذا المقال المثير للجدل حوله، مازال المستقبل هو مشكلتنا، ولقد تفاقم الوضع بعد ثورة يناير وما تبعها من ارتفاع سقف التوقعات والحلم بمستقبل آخر وغد مختلف... الحديث موصول في مقال الثلاثاء القادم بإذن الله.
ektebly@hotmail.com