شباك البهاء

جمال الجمل الخميس 08-10-2015 21:46

يواصل المخرج الشاب بهاء الجمل مع عدد قليل من أبناء جيله، رسم مسار جديد لسينما حرة، غير خاضعة لحيتان الانتاج، ومصاصي الدماغ الذين يربطون أقدار الفيلم بغرائز جمهور الأحد وشروط شباك التذاكر.

بعد فيلمه الأول «ستة» الذي نال عددا من الجوائز في مهرجانات دولية للفيلم القصير، انتهى بهاء من فيلمه الثاني «شباكي»، وهو فيلم صعب وغريب لدرجة مذهلة، تجلب الفرح والخوف معا.

الفيلم قصير أيضا من حيث مدة العرض (16 دقيقة)، لكنه عميق ومكثف، حتى أنني ظللت منشغلا به لفترة طويلة بعد مشاهدته في أول عرض خاص بعد المونتاج النهائي.

16 دقيقة فقط، لكنني شعرت بالبهجة، والتوتر، ضحكت قليلا، وحزنت كثيرا، تدفق من جسدي العرق بشكل ملحوظ، وتراكمت بداخلي أسئلة كثيرة، لكن شيئا ما في الفيلم كان يدفعني لأمل غامض.

الكاميرا تمر على قضبان سور معدني لأحد الكباري مع صوت أغنية شهيرة تتحدث عن لحن غامض يتكرر في الأذن بإلحاح: بادام.. بادام، هذا اللحن يطاردني في كل لحظة وفي كل مكان، وأنا حزين وأنا أبحث عن السعادة، كأنه يهزأ من خطايا الماضي، يلومني ويدفعني للجنون.

ثم تعليق فلسفي عميق يخبرنا أن الحياة ليست إلا تفاصيل، ومن هذه التفاصيل نصنع مصائرنا، اللحن عبارة عن مجموعة من النغمات، والكلام مجموعة من المفردات، بالترتيب والإيقاع نصنع من هذه المفردات الحب والحرب، القبح والجمال.

يبدو أن الواقع الذي يقدمه الفيلم فوضوي، عشوائي، عنيف، لكن المخرج لا يدين هذا الواقع، بل يقول إنه مجرد مفردات على «المايسترو» أن يصنع منها لحنه الخاص بالانسجام والتوافق، وليس بالتصادم.

ربما لهذا كان عنوان السيناريو الذي كتبه المخرج أولا بالانجليزية مباشرة: My Cairo’s Heart Beat Harmony، وهو عنوان لم يحبه المخرج بالعربية، فالفيلم ليس عن القاهرة بذاتها كمدينة، كما أنه ليس عن البطل، وليس ايضا عن هجرة صديقه وشريك حلمه وفيلمه الأول إلى ألمانيا بعد أن يئس من أحوال القاهرة كمدينة «قاهرة»، والأخطر أنه ليس عن الثورة وحظر التجوال، والغربة والانتماء، إنه ليس عن كل هذه الأشياء، لأنه يعتم اساسا بالعلاقة بين الأشياء، وليس بالأشياء نفسها.

يقول الصديق: ربنا مش هيتوب علينا من البلد دي؟

فيقول صاحب الشباك: هذا قدرك.

إنه يتعامل مع مفردات الوطن باعتباره قدر، يمكن أن نصنع منه الجمال، بدلا من أن نستمر في الشكوى من القبح والتعاسة، لذلك تعود الصديق على عمل فيونكة من غلاف البسكوت والشيكولاتة قبل أن يرميها من شباك السيارة، فإذا كانت القمامة قدرنا، فلماذا لا نجعل منها فيونكات تملأ الشارع؟.

يسأل الصديق بشكل فلسفي وهو يرمي فيونكته في نهر الشارع، وفي المشهد التالي عندما يسمع أصوات انفجارات يتراهن مع صديقه رسول التناغم: ضرب نار، وللا فرح؟

الرهان على عصير، لكننا لم نر مشهد العصير، (لأن الخاسر سيشرب مثل الرابح)، بل نرى السماء مضاءة بطلقات «الفاير فوكس».. إنه فرح.. الأمل ينتصر دائما، برغم دخان القنابل المسلة للدموع، وبرغم مشاهد الدبابات في الشوارع، وبرغم الفقر والعنف والزحام، القاهرة بكل عشوائيتها وجنونها أجمل من برلين التي هاجر إليها الصديق اليائس من تحسن الأحوال في بلد الفوضى.

يبقى أن الفيلم لم يعتمد الشكل التقليدي في سرد موضوعه، ولم يقدم حدوتة روائية، ولم يحرص على انتظام الصورة، بل جاء متشظيا، متكسرا، مشوشا، مثل الواقع الذي نعيشه.. مفردات، مجرد مفردات مبعثرة تحتمل كل شئ، وعلينا، علينا جميعا أن نصنع منها حياتنا بالتناغم والتوافق، وليس بالتناحر والصدام، هكذا يمضي العالم منذ نشأته، وحتى القيامة عندما تنتهي الحياة بثلاث نفخات في بوق.. فالموسيقى هي البدء وهي الختام.. هي الحياة.. فليصنع كل منكم لحنه، ويقف في شباكه يعزفه، أو يسمعه، لأنك في كل الأحوال ستسمع لحنك يطاردك: بادام.. بادام.

جمال الجمل

tamahi@hotmail.com