الشعوب على درب الحكام (٥)

عبد الناصر سلامة الخميس 08-10-2015 21:40

تدور السياسة الأمريكية منذ سبعينيات القرن الماضى حول تنفيذ رؤية برنارد لويس للمنطقة، والتى لخصها الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز بقوله: لقد جرب العرب قيادة مصر للمنطقة مدة نصف قرن، فليجربوا قيادة إسرائيل، ولكن هل معنى ذلك أن العرب فى كل الأحوال فى حاجة إلى قيادة حتى لو كانت من خارج العرب؟، ربما يفسر ذلك ما قاله برنارد نفسه من أن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون لا يمكن تحضرهم، وإذا تركوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات، ولذلك فإن الحل الأمثل للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية.

القضية الأساسية التى يجب أن نضعها فى الحسبان دائماً وأبداً، هى أن الغرب خلال التاريخ الحديث لم يستطع تحقيق أى من ذلك الذى يتحدث عنه لويس إلا بمساعدة العرب أنفسهم، سواء بالخضوع أو بالخيانة، وهو ما جعله يتحدث بثقة كبيرة، مثلما تحدث رالف بيترز فى مشروعه (حدود الدم)، الذى لم يستثن فيه المناطق المقدسة من العبث، وتم من خلاله تقسيم خمس دول عربية فقط إلى ١٤ دويلة، اعتمادا بالدرجة الأولى على العوامل العرقية والطائفية.

فبالعودة إلى التاريخ القديم، سوف نجد أن سعد بن أبى وقّاص هزم الفرس، وخالد بن الوليد هزم الروم، وعقبة بن نافع فتح أفريقيا، وقتيبة بن مسلم فتح الصين، وعبدالرحمن الداخل (صقر قريش) أسس دولة الأندلس، وصلاح الدين الأيوبى حرر بيت المقدس من كل الجيوش الصليبية، ومحمد الثانى (الفاتح) فتح القسطنطينية وأسقط الإمبراطورية البيزنطية، وسليمان القانونى أخضع ثلثى أوروبا لملكه، وكان يلقب بسلطان العالم.

إلا أن التاريخ الحديث قد حمل كل ما هو مشين، خاصة فى هذه المرحلة، مع بدء تنفيذ ما تسمى حروب الجيل الخامس التى اعتمد فيها الغرب على الاقتتال الداخلى بين العرب بعضهم بعضاً، وتعد اليمن النموذج الأكثر وضوحا بين الأزمات المطروحة الآن، حيث وجود قوات عربية على الأرض تشن حربا غير منطقية، ضحاياها فى معظمهم من المدنيين، ناهيك عن كل عمليات الاقتتال الداخلى فى كل المناطق الساخنة الآن، بدءا من العراق وسوريا، ومرورا بليبيا والسودان، وحتى سيناء بمصر، ناهيك عن الأوضاع المتوترة بين الفلسطينيين بعضهم بعضا، واللبنانيين أيضا، والأزمات الطائفية فى البحرين والسعودية.

وبقراءة التاريخ سوف نكتشف، فى نهاية الأمر، أن كل المواقف العربية السياسية، وبالتالى التدخلات المسلحة العربية أيضا، إنما هى فى النهاية جزء من مخطط التقسيم الغربى، سواء ما يتعلق منها بالسياسات الرسمية، أو ما يتعلق بالتنظيمات المسلحة، التى حصلت فى معظمها على تدريبات غربية، وأموال عربية، ولن نستثنى فى ذلك أى أحداث، بما فيها الأحداث غير المنطقية العديدة التى شهدها موسم الحج هذا العام، والتى تشير إلى أن مخطط تدويل المشاعر المقدسة يسير فى طريقه المرسوم له، بأيد عربية أولا، وما الإيرانيون أو الشيعة بصفة عامة إلا أحد الأدوار المرسومة بدقة، بما ينبئ فى الوقت نفسه أن موسم الحج المقبل قد يشهد أحداثا أكثر دموية، فى إطار البدء الفعلى فى تنفيذ مشروعات التقسيم والتدويل المشار إليها.

المثير فى الأمر هو أن تلاقى المصالح الإسرائيلية مع العديد من الدول العربية فى مواطن صراع مختلفة، والتى من أبرزها المأساة السورية، جعل الهدف الإسرائيلى لقيادة دول المنطقة، الذى أشار إليه شيمون بيريز، لم يعد أمراً صعب المنال، مع تراجع الدور المصرى لأسباب معلومة، تتعلق بالمعونات والتأييد السياسى فى مواجهة الأوضاع الداخلية، جعلته على الأقل يتعامل على استحياء مع قضايا أمن قومى من الدرجة الأولى، وتحديدا ما يتعلق منها باليمن وسوريا وليبيا، وحتى العراق.

قد تكون المنطقة تمر بالفعل بأخطر المراحل فى تاريخها الحديث، منذ اتفاقية التقسيم الأولى (سايكس بيكو)، التى كانت سببا رئيسيا فى معظم الصراعات الحدودية والعرقية الدائرة الآن، وقد يكون التاريخ يعيد نفسه، حيث استكانة القيادات السياسية فى مواقعها، بل وربما هى فى معظمها جزء من المشروع الغربى، إلا أن الغريب فى الأمر تلك الاستكانة الشعبية فى ظل متغيرات التعليم والثقافة ووسائل الاتصال الحديثة، بالمقارنة بزمن سايكس بيكو (١٩١٦)، وهو الأمر الذى كان يجب أن تختلف معه مواقفها بشكل جذرى عما كان الأمر عليه حينها، لكن يبدو أن هناك شيئاً ما خطأ، سواء فيما يتعلق بالتعليم أو بالثقافة فى العصر الحديث، أسفرت عن هذه الحالة، وليس أدل على ذلك إلا ما نحن فيه الآن.. وللحديث بقية.