الطرح بتدويل المقدسات الإسلامية، وفى مقدمتها الحرمان المكى والمدنى، ليس وليد اللحظة، أو ليس وليد حادث مِنى الأخير، الذى ذهب ضحيته آلاف الحجاج من جنسيات مختلفة، كما أنه ليس طرحا إيرانيا بالأساس، كما لم يكن طرح العقيد الليبى الراحل معمر القذافى، الذى تحدث فى هذه القضية أكثر من مرة، كما أنه ليس طرح المنظمات المتشددة، سُنية كانت أو شيعية أو غيرها، وهو إن كان قد صدر عن أى من هذه يوماً ما، فقد كان فى إطار مواقف رد الفعل، وفى أعقاب ممارسات ما من السلطات السعودية لم تلق قبولاً لدى هذا الطرف أو ذاك.
منذ بداية الخمسينيات فى القرن الماضى والحديث عن مشروعات تقسيم دول الشرق الأوسط إلى دويلات عرقية وطائفية لم يتوقف فى الأروقة الغربية والأمريكية والإسرائيلية، حتى إن بن جوريون، أول رئيس حكومة لدولة الاحتلال، قدم فى عام 1953 مشروعا فى هذا الشأن، تم إعداده بتنسيق مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وفى عام 1982 نشرت مجلة «كيفونيم» الإسرائيلية خطة «أودد ينون» لأول مرة تحت عنوان: «استراتيجية إسرائيل فى الثمانينيات»، وقدمها الإسرائيلى- الأمريكى «إسرائيل شاهاك»، تحت عنوان: «خطة إسرائيل للشرق الأوسط»، التى ترتكز على أن تتحول إسرائيل إلى قوة إمبريالية، وأنه يجب إعادة تقسيم العالم العربى إلى دويلات صغيرة غير فعالة وغير قادرة على الوقوف فى وجه الإمبريالية الإسرائيلية.
أما الأخطر على الإطلاق فكان ما وضعه فى عام 1980 برنارد لويس، وهو يهودى- أمريكى بريطانى- متخصص فى شؤون الشرق الأوسط، والذى حمل مشروعا جديدا لتقسيم المنطقة، بتكليف من الحكومة الأمريكية، وهو التقسيم الذى أقره الكونجرس عام 1983 فى جلسة سرية، فى أعقاب تساؤل من هنرى كسينجر عن الحرب القادمة التى يجب التمهيد لها فى الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بشبه الجزيرة العربية تحديدا، يقضى المشروع بإلغاء كل من الكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان واليمن والإمارات العربية المتحدة من الخريطة، بحيث تضم شبه الجزيرة العربية ثلاث دويلات فقط هى: دويلة الإحساء الشيعية (تضم الكويت والإمارات وقطر وعُمان والبحرين) ودويلة نجد السنية، ودويلة الحجاز السنية، وإزالة الكيان الدستورى الحالى للدولة اليمنية بشطريها الجنوبى والشمالى، واعتبار مجمل أراضيها جزءًا من دويلة الحجاز.
إلا أن هذا المشروع يبدو أنه تم تعديله بإشراف دونالد رامسفيلد وكولن باول وديك تشينى فى عام 2006، فى ضوء التطورات الحاصلة بالمنطقة، خاصة احتلال العراق، والحديث عن مشروع كونداليزا رايس الخاص بـ«الفوضى الخلاقة»، وظهر على السطح المشروع الجديد الذى أعده الكولونيل الأمريكى رالف بيترز، والذى يصف فيه السعودية بأنها «دولة غير طبيعية»، ويقترح أن يقتطع منها كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى تنشأ فيها «دولة إسلامية مقدسة» على رأسها مجلس يترأسه بالتناوب أحد ممثلى الحركات والمذاهب الإسلامية الرئيسية، أى أن يكون المجلس «فاتيكان إسلامى».
وقد اختلف مشروع بيترز الذى نال حظاً وفيراً من الترويج مع مشروع لويس فيما يتعلق ببقية دول الخليج، حيث نص مشروع بيترز على إضافة الأرض المقتطعة من شمالى السعودية إلى الأردن التى سوف تدخل معها الضفة الغربية بعد ذلك، واقتطاع أرض أخرى من الجنوب تُضاف إلى اليمن، كما أن حقول النفط فى الشرق سوف تُقتطع لحساب دولة شيعية عربية. أما الإمارات العربية المتحدة، فطبقا للمشروع، يتم دمج بعضها مع الدولة العربية الشيعية التى تلتف حول الخليج، وستصبح قوة توازُن فى مواجهة إيران، لا حليفا لها. أما فيما يتعلق بإمارة دبى، فقد نص مشروع بيترز على أن تظل مسرحا للأغنياء، وأما عُمان والكويت فتحتفظ كل منهما بأراضيها. ووفقا لهذا المشروع، ستفقد إيران الكثير من أراضيها لصالح أذربيجان الموحدة، وكردستان الحرة، والدولة الشيعية العربية، وبلوشستان الحرة، لكنها ستحصل على أراض من أفغانستان.
المهم أن مشاريع تقسيم دول الشرق الأوسط الجديد، فى إطار تصحيح تقسيمات سايكس بيكو، كما ورد على لسان أصحاب هذه المشروعات، لم تعد سرا، فقد جاهرت بها الإدارة الأمريكية علنا منذ عام 2006، ونشرت الصحف الأمريكية آنذاك الخرائط الجديدة للمنطقة، التى تضمنت إضافة إلى ما سبق ذكره، تدويلا واضحا للحرمين الشريفين فى كل من مكة والمدينة، ومن الواضح أن تغذية الصراع السنى- الشيعى هى أولى مقدمات هذا التدويل، أو بمعنى آخر هى الوقود لتنفيذ هذا المخطط، وهو ما اختزله هنرى كيسنجر بقوله إن حرب المائة عام القادمة سوف تكون بين السنة والشيعة، وهو أيضا ما أكد عليه فيما بعد وزير الخارجية الفرنسى برنار كوشنير أثناء زيارة للعاصمة اللبنانية بيروت عام 2007.
إلا أن السؤال الذى يطرح نفسه دوما هو: هل يمكن تنفيذ كل هذه المخططات دون مساعدة عربية، ومن داخل قصور السلطة، وإلى أى مدى يمكن تنفيذها؟
للحديث بقية.