فاروق ظالماً ومظلوماً (9)

صلاح منتصر الإثنين 05-10-2015 21:22

ظل فاروق ومعه أحمد حسنين، مستشاره الأول، ورئيس ديوانه، يتربصان بحكومة الوفد التى اضطر فاروق إليها امتثالاً لإنذار السفير البريطانى يوم 4 فبراير 42، الذى خيَّره بين التنازل عن العرش أو تكليف النحاس بتأليف الوزارة. إلى أن واتته الفرصة بعد 30 شهراً يوم 8 أكتوبر 1944. وكان قد حدث خلال هذه الشهور:

1ـ انتهاء خطر الماريشال الألمانى روميل تماماً بعد أن كان قد دخل الأراضى المصرية، واقترب من الإسكندرية، وخرجت مظاهرات المصريين كرهاً فى الإنجليز تهتف: إلى الأمام يا روميل.

2ـ دوران عجلة الحرب، وبداية هزائم هتلر المتتالية أمام بريطانيا والاتحاد السوفيتى والساحل الأفريقى، مما قاد إلى استسلامه.

3ـ شعور الإنجليز بأنه ليس من الحكمة الاستمرار فى سياسة العداء لفاروق، ومن ثم راح سفيرهم يخفف لغة الاستعلاء التى كان يتعامل بها مع فاروق. (بعد ذلك فى فبراير 46 تم نقل السفير مايلز لامبسون من مصر بعد أن أنعمت عليه حكومته بلقب لورد تقديراً لخدماته، وحمل اسم «لورد كيلرن»، وفى فبراير 1950 قدمت إنجلترا ترضية لفاروق عن حادث 4 فبراير بتعيينه «جنرالاً» فى الجيش الإنجليزى، وحمل قرار البراءة إلى فاروق شقيق ملك بريطانيا).

4 ـ إلا أن أهم تطور خاص خلال الـ30 شهراً، التى حكم فيها النحاس باشا، هو نجاح أحمد حسنين فى شق حزب الوفد وتمزيق وحدة وصداقة 15 سنة بين أكبر اثنين فى الحزب: مصطفى النحاس ومكرم عبيد. ومن المصادفات أن أهدتنى الدكتورة منى مكرم عبيد قبل أيام سجلاً عن عمها مكرم عبيد الذى عاشت معه طويلاً وهى طفلة صغيرة فى منزله بمنشية البكرى أو بسيدى بشر فى الإسكندرية، وكانت بالنسبة له أعز أولاد إخوته، والكتاب اسمه: مكرم عبيد.. كلمات ومواقف (إصدار الهيئة المصرية للكتاب).

ولم تكن منى مكرم هى التى وصفت مكرم عبيد بأنه كان واحداً من أشهر الخطباء فى تاريخ الحياة السياسية المصرية، بل كان هذا فى الواقع الوصف الذى تميز به «المجاهد الكبير»، كما كانت شهرته، فقد نُفى مع سعد زغلول ومصطفى النحاس إلى سيشل عام 1923، وبعد وفاة سعد عام 1927 وتولى النحاس رئاسة الوفد أخذ مكرم مكان النحاس وأصبح سكرتيراً لحزب الوفد، وفى العام التالى عُيِّن وزيراً للمواصلات فى أول حكومة للنحاس، لكنه بعد عامين منذ 1930 ارتبط فى حكومات الوفد بمنصب وزير المالية.

وفى زمن كانت فيه وسائل الاتصال محدودة، فلا تليفزيون بل ولا راديو، إلا أن لغة الخطابة كانت بالغة التقدم والتأثير، واشتهر عدد كبير من الخطباء منهم توفيق دياب ومكرم عبيد، ولذلك أرادت د. منى مكرم أن تقدم سيرة عمها من خلال خطبه، سواء السياسية أو البرلمانية، وحكايات من مرافعاته خلال عمله محامياً، وكان يحتشد لها «السمّيعة» فى المحكمة من مختلف المحافظات عندما يعرفون أن مكرم ابن قنا سيترافع فى قضية.

فى مقدمة الكتاب لخص د. أحمد زكريا الشلق، أستاذ التاريخ الحديث المعاصر، الأزمة التى جرت بين مكرم والنحاس فقال: فى رد الملك على لطمة حادث 4 فبراير 42 لم يجد ثغرة ينفذ منها إلى وزارة النحاس سوى العلاقة بين النحاس ومكرم عبيد، فراح كبير أمنائه أحمد حسنين باشا يلعب هذا الدور لإحداث وقيعة بين زعيم الحزب وسكرتيره العام. كما يرصد المؤرخون أن النحاس تغير بمرور الوقت وراح يستجيب لتطلعات زوجته الشابة الجميلة السيدة زينب الوكيل، التى جعلت تتدخل فى العمل السياسى لزوجها، وفى علاقاته مع زملائه، يدعمها ظهور شخصية فؤاد سراج الدين الذى صعد نجمه فى الوفد، مما كان له تأثيره كذلك على الزعيم والحزب الذى راح يستقطب كبار الملاك دون أهل الفكر والثقافة. وجاءت تدخلات الملك ودعوته لمكرم إلى القصر فى مارس 1942 (بعد شهر واحد من تشكيل الوزارة) لتضيف سحابات من الشك لدى النحاس وزوجته. ويمكن أن يضاف لذلك تطلعات لدى مكرم ولَّدت لديه شعوراً بأن لديه كفاءة ومقدرة لتولى منصب رئيس الوزراء أكبر ممن تولوه وهو مُحق فى هذا.

ثم إنه بدأ يجاهر بانتقاد المحاباة والفساد داخل الحزب والوزارة الوفدية، خاصة عندما طلبت منه حرم النحاس بعض التسهيلات غير القانونية لدعم مشروعات تجارية لأقاربها، فضلاً عن طلب الوزارة الوفدية ترقيات استثنائية لموظفى الحكومة الوفديين رفضها وزير المالية مكرم عبيد بدعوى أن الميزانية لا تجيز ذلك، فأعفاه النحاس من وزارة التموين وعيَّن سراج الدين وزيراً للزراعة رغم اعتراض مكرم على ذلك، وصار الملك يستقبل كلاً منهما على حدة فساءت العلاقات أكثر، حتى أعلن النحاس فصل مكرم من سكرتارية الوفد. وفى يوليو 1942 فصل مكرم من عضوية حزب الوفد أيضاً. وهكذا نجح فاروق فى الانتقام من الوفد، وعندما جاءت الفرصة ليغمد سكينه فى قلب النحاس فإنه كتب إليه يوم 8 أكتوبر 1944 خطاب إقالة بالغ القسوة والإهانة، جاء نصه: عزيزى مصطفى النحاس باشا..

لما كنت حريصاً على أن تحكم بلادى وزارة ديمقراطية تعمل للوطن وتطبق أحكام الدستور نصاً وروحاً، وتسوى بين المصريين جميعاً فى الحقوق والواجبات، وتقوم بتوفير الغذاء والكساء لطبقات الشعب، فقد رأينا أن نقيلكم من منصبكم، وأصدرنا أمرنا هذا لمقامكم الرفيع شاكرين لكم ولحضرات الوزراء زملائكم (ما أمكنكم) أداؤه من الخدمات أثناء قيامكم بمهمتكم. فاروق.

وكانت هذه ثالث إقالة لوزارة النحاس، فقد كانت الأولى سنة 1928 فى عهد الملك فؤاد، والثانية فى سنة 1937 بعد شهور من تولى فاروق، والثالثة هى التى صدرت فى عام 1944، ولعلها كانت الأسوأ فى خطابات الإقالة. وظل الوفد بعيداً عن الحكم سبع سنوات شهدت نشاطاً إخوانياً كبيراً من الاغتيالات والأحداث، إلى أن عاد الوفد إلى الحكم عقب انتخابات يناير 1951، وهى الوزارة الرابعة والأخيرة له، ولم تدم سوى سنة واحدة كانت نهايتها بحريق القاهرة يوم 26 يناير 1952 وبعدها كان الطريق إلى يوليو 52... وإلى الثلاثاء القادم.


salahmont@ahram.org.eg