من الأشياء التى منحت الغرب اليد العليا فى مجالات البحث والفكر والتطور الإنسانى أن كل الأفكار تجد أوعية لاحتوائها والتفاعل معها، إما بتطويرها وتنقيحها للاستفادة منها، وإما نبذها وتسريبها لتخرج مع مواسير الصرف. أما فى الشرق العربى فإنه لم يظهر لدينا فلاسفة ولا علماء أو مفكرون يعتد بهم بسبب الخوف.. الخوف من إغضاب السلطة أو خشية التكفير من العوام الذين تشجعهم السلطة على محاربة العقل. وليس المفكرون فقط الذين يحاصرون أنفسهم بأنفسهم ويقمعون نتاج تأملاتهم وقراءاتهم، ولكن المثقف العادى الذى كان يُفترض أن يكون مؤثراً فى محيطه ينسحب ويتراجع بسبب ارتفاع أمواج الخرافة والشعوذة وغلبة تأثيراتها على الناس لدرجة أن العقلاء لا يستطيعون طرح رأى عادى فى أى موضوع، وعلى سبيل المثال لا الحصر كثرت الأقوال الخزعبلية بعد حادث منى وحادث سقوط الرافعة فى الحرم اللذين أديا إلى مقتل وإصابة الآلاف من الحجاج من كل الدول الإسلامية.. كثرت الأصوات التى كادت تشكر السلطات السعودية لأنها بإهمال مسؤولى الحج فيها وأخطائهم الواضحة منحت حجاج بيت الله الحرام ميتة مباركة رائعة فى أيام مفترجة ودفعت بهم إلى جنة الخلد!..لا أتحدث عن موقف السلطات الحاكمة فى العالم العربى التى لا يهمها موت مواطنيها وتخشى إغضاب السعودية صاحبة اليد المتفضلة التى تطعم الأفواه، لدرجة أن إيران وحدها هى التى احتجت لقتل حجاجها وطالبت بتحقيق جاد وشفاف فى أسباب الكارثة منعاً لتكرار حدوثها، ولئن كان الصراع السياسى بين إيران والسعودية سبباً إضافياً للغضبة الإيرانية العارمة، فإن الحق لا يصير باطلاً لمجرد أن إيران هى التى تطالب به!.. لا أتحدث عن موقف السلطات الحاكمة، لكنى أتحدث عن المواطن العادى الذى أبدى قدراً من الغبطة ولا أقول الحسد للذين أسعدهم زمانهم فسحقت الرافعة رؤوسهم أو ماتوا دهساً تحت الأقدام. وإذا حاول صوت طبيعى أن يقول يا قوم: إن الناس تدخل الجنة بأفعالها وليس بمكان الوفاة أو تاريخها.. بمعنى أن الموت فى مكة هو نفسه الموت فى باريس، والموت فى رمضان هو نفسه الموت فى شوال، ودخول الجنة يحتاج للعمل الدؤوب لا للمصادفات السعيدة.. لو حاول أحد أن يقول هذا فإن الناس يهمون بالفتك به. الناس تفضّل أن تعتقد أن هناك أبواباً أخرى لدخول الجنة بخلاف العمل الصالح هرباً من تبعات النظافة والنزاهة والشهامة والوفاء، ويرتاحون لفكرة ضربة الحظ التى تحملك إلى الفردوس! بطبيعة الحال مسائل الجنة والنار ومن يدخل هنا ومن يدخل هناك علمها عند ربى، لكن الله أوضح لنا هذه المسألة التى لم يختلف عليها أى دين، ولئن كان يمكن الاستشهاد بأحاديث عن حسن الخاتمة، فإننى أتصورها تعنى الصالحين والأخيار ولا تقصد الأشرار الذين يمكن للواحد منهم أن يموت داخل مسجد، وما أكثر الأشرار الذين تعج بهم المساجد فى بلادنا الطافحة بالفساد! أستطيع طبعاً أن أتفهم أن يقوم الناس بتعزية أهل الضحية وبثّهم كلمتين طيبتين عن المرحوم الذى مات فى أيام مفترجة فى مكان كريم وبالتالى فمصيره الجنة، على أن يكون هذا فى إطار المجاملة، لا تعبيراً عن قناعة حقيقية، لأن الاعتقاد بهذا يضرب كل ما أتت به الأديان والشرائع، فضلاً عن مساعدته على دفع الناس لشكر المتسبب فى الكارثة بدلاً من محاسبته!