كتابة بالحبر السري

جمال الجمل الخميس 01-10-2015 21:31

سأحدثكم عن جونز.. «بروتس جونز».

لاتوجد مناسبة للحديث، ولا يوجد لدي معنى محدد أسعى لتوصيله، فأنا في الحقيقة أتعمد في هذه الفترة أن أهرب من المعاني والرسائل، وليس لدي أي شعور بالخجل من الخواء الفكرى والبلادة الذهنية التي أمر بها، فهي حالة مثالية ملائمة تماما للمرحلة التي أعيشها، لذلك فإن أي تفسير لقصة جونز هو بالكامل مسؤولية القارئ وحده!

جونز حمال زنجي بائس، ارتكب الكثير من جرائم السرقة والاحتيال والقتل أيضا، وبعد أن ألقي القبض عليه وتم حبسه، تمكن من الفرار، وتبناه تاجر عبيد أبيض، ساعده على الهرب إلى جزيرة بعيدة، حيث تمكن بالقهر والخرافة من تنصيب نفسه إمبراطوراً عليها.

لم تتخل التعاسة عن جونز بعد وصوله إلى السلطة وامتلاكه للثروة، لكن مأساته زادت عمقًا، كما تعرفنا عليها في مسرحية من فصل للكاتب الأمريكي يوجين أونيل مطلع القرن الماضي تحت عنوان «الإمبراطور جونز».

مارس جونز القهر والذل على شعب الجزيرة الخائف، ولم يتحرك للإطاحة به، لأنه أقنعهم بخرافة اخترعها ملخصها أنه لن يموت إلا برصاصة من الفضة، وأنه وحده الذي يملك هذه الرصاصة، وبالتالي فإن الشعب لن يستطيع الخلاص منه، فهو وحده القادر على قتل نفسه برصاصته الفضية.‏

عندما تمكن جونز من السلطة تمرد على صانعه الأبيض، فقرر الأخير التخلص منه، وبدأ في تأليب الناس عليه، لكن الشعب الغارق في الجهل والفساد كان يتصور أن إزاحة جونز مستحيلة، فهجر الجزيرة واختفى!

في ذلك الصباح استيقظ الإمبراطور فلم يجد شعبه، خرج يبحث عنه في الغابة، وهناك هاجمته الذكريات وأشباح الخوف الكامن في نفسه، واستغرق في نوبة من الهلوسة والهذيان على دقات طبول رتيبة تنبعث من الغابة زادت من هلعه، حتى انتهى به الأمر للانتحار بالرصاصة الأخيرة التي احتفظ بها لنفسه.

هذه المسرحية القصيرة صارت من أعطم وأشهر أعمال أونيل، والعجيب أنها اتخذت العديد من الصور والتأويلات المختلفة بحسب ثقافة النقاد، فهي تقفز من حدث إلى حدث تاركة وراءها فراغا كبيرا في التفاصيل فسره كل ناقد بطريقته، حتى أصبح لدينا عشرات الصور المختلفة من الإمبراطور جونز وقصته، فهناك من يراه عبدا صار مسخا بعد أن تمثل أخلاق جلاده، فاستغل أبناء جنسه السود، وظلمهم وسرقهم حسب نصيحة التاجر الأبيض «سيمسرز» الذي كان يخطط لاستخدامه كأداة ينهب بها هذه البلاد المتخلفة مستغلا جهل أهلها، لكن عندما احتكر جونز النهب والخيرات لنفسه انقلب عليه «سيمسرز»، وبدأ في ملاحقته وإفساد مملكته، وإشعال الثورة ضده، لكن جونز كان قد خطط لهذه اللحظة ونجح في الهروب إلى الغابة، لكنه لم يستطع أن يهرب من نفسه، وهذه المواجهة مع النفس كانت ذروة المأساة!

وهناك من يكتفي بإدانة التاجر الأبيض باعتباره هو الصانع الحقيقي للديكتاتورية كما تفعل أمريكا في أمريكا اللاتينية ودعم الحكام التابعين لها في أنحاء العالم.

وهناك من يصل لأبعد من ذلك بالحديث عن جهل الشعوب باعتباره هو صانع الديكتاتور، فنحن نرى جونز وسط طابور من السجناء الزنوج، والرجل الأبيض يضربه بالسوط، حتى يغضب جونز ويهاجمه بجاروف وهمي، ثم يطلق رصاصة في الهواء يختفي على أثرها الجميع التاجر والسجناء الزنوج أيضا.

مع ذلك نشاهد جونز في المشهد التالي في حالة إعياء والتاجر يبيعه في سوق النخاسة مع بقية الزنوج، ثم نراه إمبراطورا يستخدم نفس أساليب التاجر الأبيض، ثم نراه مطاردا يهذي في الغابة، يسد أذنه من هدير الطبول الغامضة التي تمثل الثورة، وفجأة يلتقي بساحر غريب يردد التعاويذ التي تزيد من لوثته وهذيانه، ويستدعي الساحر من قلب البحيرة تمساحا مسحورا أخضر العينين يشتهي الدم وعندما يهم بافتراس جونز لم يجد غير الرصاصة الفضية التي أوهم بها شعبه فيطلقها على التمساح، في الوقت الذي يصل فيه الثوار ليطلقون على جونز رصاصة فضية أخرى صنعوها بأنفسهم.

بعض النقاد يقولون إن الشعب تعلم الثورة أخيرا، وتمكن من قتل الإمبراطور الفاسد، والبعض الآخر يؤكد أن جونز لم يمت وأنه كان يتخيل كل ذلك كنوع من تأنيب الضمير والعذاب الداخلي، ولا أحد يعرف أين الشعب؟، ولا كيف يفكر في خرافة الرصاصة الفضية؟

المؤسف أنني لم أجد قراءة مصرية لهذه المسرحية، وبالتالي لم أجد إجابة تخصنا عن سؤال: أين الشعب؟، وكيف يفكر؟

هل فهم أحدكم شيئًا من معضلة «الإمبراطور جونز» وشعبه؟!

جمال الجمل

tamahi@hotmail.com