الحنجورية والمسألة النووية

محمد المخزنجي الخميس 01-10-2015 21:34

ضمن الأمراض التاريخية لبعض نخبنا السياسية المستقطَبة أيديولوجيا أو تنظيميا، تبرز ظاهرة المزايدة لقمع الآراء المختلفة مع الأيديولوجيا المعتمدة لديهم، أو حتى الآراء المجتهدة فى إطار هذه الأيديولوجيا، وللمزايدة أشكال وألوان، أشهرها إعلاء الصوت والاتهام بالانحراف الفكرى، أو الطرد من جنة «الماركسية» أو «القومية» أو «الوطنية»، أو «العروبة»، فى جانب الأيديولوجيات الدنيوية، ويناظرها فى الجانب الآخر مُدَّعو الوكالة الدينية عن السماء فى الأرض، من حنجوريات أو حلقوميات زاعمى امتلاك «صحيح الدين» تبعا لأهواء وتأويلات وتخريجات الإفتاء القامِع للتابعين فى تنظيم أو جماعة أو فرقة أو إمارة.

الغريب والعجيب فى هذه المأساة أن تمد الحنجورية أو الحلقومية مداها ليشمل أرضا لا يجوز أو يصح أو يُعقَل أن يتسلل إليها ذلك الغرس العقيم، الأعوج والأشْوَه، كما فى أمرٍ كبير وخطير فى كل أبعاده كموضوع الطاقة النووية، فى لحظتنا الراهنة، وهو مختلف تماما عنه فى أزمنة أبكر، كان فيها « النووى» بأصوله العسكرية مقياس قوة الأقطاب الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية، ثم على امتداد سنوات الحرب الباردة، وقد خرج جانبه «السلمى» للحصول على الطاقة من جراب خبرات التسلح بالقنابل النووية الانشطارية، وهو أمر يفسر كثيرا سيكولوجية بعض العاملين فى الطاقة النووية من المدنيين فى العالم وليس عندنا فقط، وسيأتى اليوم الذى أتوقف عندها بتأمل عميق، لأن الظاهرة جديرة حقا بالتأمل.

اللوحات من جدارية مكرسة لرفض المفاعلات النووية رُسمت على بناية بارتفاع 3 طوابق فى «والستون» بلندن عام 1985 وأصر السكان على تجديدها

تسويق نوويقراطى يغازل العوام

من ملامح هذه الحنجورية النووية أو الحلقومية النووية، أن نفرا قليلا ممن عينوا أنفسهم منافحين أشداء عن المشروع النووى المصرى، أو «الحلم النووى»، أفلتت من حناجرهم أو حلاقيمهم اتهامات أصفها بأنها حقيرة، ومنحطة، وعمياء البصيرة، تتهم مُعارضى النووى المصرى بأنهم امتداد داخلى للمؤامرة الخارجية، الأمريكية الإسرائيلية لإحباط هذا «الحلم»، الذى روجوا أنه سيصعد بمصر إلى سماء التقدم العلمى والتقنى، والطاقة الرخيصة الغزيرة، مع الإيحاء بامتلاك ما هو أبعد من ذلك، ويغازل غوغائية العوام وشعبوية الجماهير الهائجة. وبالطبع أصابنى رشاش من هذا الوسَخ الذى نثرته حلاقيم من طينة ما تنثره، وبرغم يقينى أنه رشاش هش ومتهافت، وستتكفل الشمس والنور بتبخيره ليأكل نفسه بنفسه كأنه لم يكن، إلا أنه كان مؤلما لشخص مثلى، وكانت وحشية بالغة أن يلوح أحدهم بقذارة اتهام كهذا يوجه إلى، ولو من بعيد، والمحزن إضافة إلى هذا الإيلام، أننى كنت على يقين من أن أمريكا وإسرائيل- هما على العكس تماما مما يزعم الحلاقمة النوويون لدينا- يرحبان بإيقاع مصر والعرب فى هذا الفخ، فى زمن صارت فيه هذه الوسيلة للحصول على الطاقة مثقلة بالإخفاقات والشكوك، ومسدودة الأفق، حتى لقد قيل عن فرنسا، الأكثر اعتمادا على الطاقة النوية فى العالم، إنها مرتهنة لتصير «أكبر متحف خردة لصناعة آفلة ومُلوثة فى المستقبل»!

أعترف لكم بأننى الآن لا أكتفى بكشف حقيقة طال غيابها فقط، بل أنال ثأرى وثأر من يُعارضون هذا الكابوس النووى بدوافع وطنية وأخلاقية وبيئية واقتصادية وحتى روحية، الذين نُثِر عليهم رشاش وساخة النزق الحنجورى وغطرسة التخصص التقنى الضيق والمتعامى عن أبعاد أعمق وأرحب من تخصصهم، ذلك التخصص الذى أؤمن بأن له أفضالا كثيرة أخرى راهنة وآفاقا مستقبلية واعدة، بل قد تكون مُنقذة للبشرية، لكن ليست فى مجال مفاعلات الطاقة الانشطارية هذه التى يستميتون فى الترويج لها. وحتى أكون عادلا ومنصفا، فليس كل النوويين لدينا مارسوا هذا الفُحش تجاه المعارضين، بل هم قِلة القِلة، والذين للعجيب الغريب، بل للمنطقى الأريب، أكثر من ينطبق عليهم مصطلح «النوويقراطيون» nucleocrats، الذين انقطعت صلتهم بالعمل النووى الميدانى، وطال مكوثهم على المكاتب وانشغالهم بالكلام المكرور فى الصحافة وعلى شاشات التليفزيون. وهذا الاصطلاح ليس لى، لكنه أقنعنى تماما، وعلى أسس واقعية ملموسة، وأسس نفسية سيجىء دورها، لا برغبة الفضح أو التشهير، بل- يعلم الله- بالرغبة فى فهم أمور تبدو سطحية، بينما هى عميقة الخطر فى التأثير على الرأى العام، كما على متخذ القرار، الذى لن يعفيه هذا التأثير من مسؤولية ما يقرره فى أمر شديد الخطورة، ملغوم بالمثالب فى الحاضر، وواعد بخسران أكيد فى المستقبل.

والمعنى فى بطن أمريكا وإسرائيل

«البحث عن المعنى» تعبير سمعته من الأستاذ محمد حسنين هيكل منذ سنوات، وهو يطالب بمنهج فى التفكير نربط من خلاله بين أمور عديدة لنخرج برؤية أدق وأشمل، ولم يكن يتحدث عن المشروع النووى بل عن أمر آخر لا أتذكره، ومهما قيل عن الأستاذ هيكل، فهو يظل كاتبا عملاقا استثنائى الأداء، ومُفجِّرا شديد التأثير فى توليد الأفكار الجديدة والمفيدة، حتى المعارضة لأفكاره، ولقد التقطت هذا المصطلح باحتفاء فورى، لأنه يتطابق مع منهج مكثت أمضى فيه لا شعوريا فى الأدب، وانتقل معى فى كتابة المقال وإن بوعى أكثر، خاصة ذلك المقال المطول الذى أسميه «المقال الاستقصائى» قياسا على «التحقيق الاستقصائى» فى الصحافة، والذى نالت مناقشتى للمشروع النووى المصرى أكبر قدر منه، ونلت منه خيرا وشرا، وكان أسوأ الشرور ذلك الاتهام الحنجورى الحلقومى الردىء بالتبعية للمؤامرة «الصهيوأمريكية لإعاقة دخول مصر فى العصر النووى». بينما هذا العصر يوشك على الأفول. وتعالوا نتأمل الأمر، ونبحث فى مفرداته عن معنى..

اللوحات من جدارية مكرسة لرفض المفاعلات النووية رُسمت على بناية بارتفاع 3 طوابق فى «والستون» بلندن عام 1985 وأصر السكان على تجديدها

أمامى ثلاث مواد صحفية ليست مفاجئة لى أبدا فى موضوع النووى المصرى والعربى، وإن كانت ستفْجَأ من تَفْجَأ، أولاها مقالة نشرتها جريدة «وول ستريت جورنال» الأمريكية التى تصدر من نيويورك على موقعها الإلكترونى فى 21 سبتمبر 2015، تتكلم عن تحالف رأسمالى أمريكى دولى يتفاوض مع حكومات شرق أوسطية لبناء 40 مفاعلا نوويا فى عدة بلدان، تشمل المملكة العربية السعودية والأردن ومصر. والثانية مقالة نشرتها جريدة «هاآرتس» الإسرائيلية فى 12 مايو 2015 للمحلل السياسى والصحفى المعنى بالشؤون العسكرية «أمير أورن» يتكلم عن الرد على إيران حال خرقها للاتفاق النووى الأخير، ليس بهجوم قصير خاطف على المنظومة النووية الإيرانية كما فعلت إسرائيل مع المفاعل النووى العراقى، ولكن «بمساعدة المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا على امتلاك النووى». أما المادة الصحفية الثالثة فهى تقرير إخبارى منشور فى جرائد ومواقع عدة فى 21 يونيو 2015 عن لقاء فى مكتب وزير الكهرباء المصرى حضره عديد من أركان الوزارة لمناقشة ممثلى «تحالف رأسمالى سعودى أمريكى» يعرضون تنفيذ 5 مشاريع، على رأسها المفاعلات النووية لإنتاج 59 ألف ميجاوات من الكهرباء فى مصر!

على طريق مُناهضة الكوابيس النووية

قبل أن أعرض لتفاصيل صادمة فى هذه المواد الصحفية التى تردُّ رشاش الحنجوريين النوويقراطيين إلى حلاقيمهم، وتطرح السؤال الذى يتضمن إجابته: «من يروج للرغبة الأمريكية الإسرائيلية اليوم؟» أود التنويه أن معارضتى للمفاعلات النووية لم تبزغ إلا بعد 26 إبريل 1986 ليلة اندلاع الحريق المروع فى قلب الوحدة الرابعة بمحطة تشيرنوبل الكهرونووية، قبلها لم أكن معنياً بهذه المفاعلات، لا أحبذها ولا أرفضها، برغم إحساس بيئى بازغ ظهر جليا عام 1983 فى كتابى القصصى الأول «الآتى» تعاملت فى قصصه مع الطيور والأشجار والحشرات والريح والمطر والزهور كأبطال دراميين على قدم المساواة مع الإنسان. أما بعد ذلك اليوم الربيعى الموحش من أيام تشيرنوبل التى عشتها حتى الأعماق حين كنت أدرس للاختصاص الطبى فى كييف، فقد كانت تجربة ذابحة للقلب بمعايشة أول رعب نووى كبير بلا حرب تعيشه البشرية، خاطرت بحياتى لأرصد أصداءه فى العاصمة الأقرب من تشيرنوبل، فخرجت بحواس الكاتب كلها لأرى الشوارع الخالية التى يغسلونها بمحاليل غروية تصرف عنها الغبار المشع، وأسواق مكتئبة لا يشترى أحد زهورها ولا فاكهتها المشبوهة باحتمالات التلوث الإشعاعى، بكيت بحرقة لا كابح لها على رصيف محطة كييف وأنا أشاهد قطارات تحمل الأطفال الجمال الباكين ممن تقل أعمارهم عن 6 سنوات وتمضى بهم بعيدا عن أحضان أمهاتهم خارج المدينة التى ارتفع بها الإشعاع، لطَمَت بصرى لوحات رحلات الطيران كاملة العدد التى تخرج من المدينة بالمفزوعين من السرطان، واختلَستُ إطلالة على تشريح جثة أحد ضحايا الكارثة النووية، تفجرت كل أوعية جسمه الدموية الدقيقة فصار كما خرقة منقوعة بنزيف دمائه. وتسللت فى مغامرة غير محسوبة العوائق إلى «بريبيات»، مدينة العاملين النوويين فى المحطة النووية المنكوبة التى تحولت إلى مدينة أشباح يلفحها الإشعاع القاتل. من كل هذا نبع كتابى «لحظات غرق جزيرة الحوت- فصول تشيرنوبل الأربعة- يوميات كاتب مصرى عايش الكارثة»، وبعد ذلك لم يعد شأن هذه المفاعلات مجرد شأن انفعال أدبى، بل صار استقصاءً متواصلا ومتابعة نهمة، ومحاولة فهم، فخلاصة تبلورت فى معارضة معرفية لهذه الصناعة التى يتمناها لغيرهم من يودون إنهاك اقتصاد هذا الغير ووضعه على منصة تصويب قاتل للنيل منه عند الحاجة، صناعة بالكثير الذى تشفطه من ميزانية الاستثمار الوطنى المحدودة، تُعوق قدرا هائلا من الممكن تكريسه لمشاريع تنمية حقيقية مُلحة ومستدامة وملموسة الانعكاس على الحاضر، كما أنها صناعة تُثقل المستقبل بأعباء التخلص من الأجداث القاتلة لهذه المفاعلات عند تفكيكها بعد نهاية أعمارها الافتراضية التى يمُطُّون فيها فتتفاقم أخطارها. ولم يعد عندى شكٌ أبدا فى أن أعداءنا يتمنون لنا أن نقع فى فخ هذا النووى، لكن إحساسى القوى لم يكن يدعمه دليل ظاهر، وقد بزغ الدليل..

اللوحات من جدارية مكرسة لرفض المفاعلات النووية رُسمت على بناية بارتفاع 3 طوابق فى «والستون» بلندن عام 1985 وأصر السكان على تجديدها

تفليس العرب بالوهم النووى

وحتى نخرج برؤية جامعة أو «معنى» من المواد الصحفية الثلاثة التى ذكرتُها، أرى أن نتتبع ظهورها زمنيا، وأولها هو مقال «أمير أورن» فى «هاآرتس» الإسرائيلية، وفيها يقول المحلل السياسى والخبير بالشؤون العسكرية: «نقطة الانطلاق المختلفة للبحث عن مبرر يقنع الإيرانيين بأنه من المجدى لهم أن يمتنعوا عن الوصول للسلاح النووى، وإن ظل التهديد الإسرائيلى- الأمريكى بالعمل العسكرى على حاله، مع أن مصداقيته التنفيذية والسياسية لاتزال إشكالية، يجب التفكير بما يتعارض مع الفكرة والنهج القديمين لاعتبار مسلسل النووى المصرى والتركى والسعودى فى أعقاب الإيرانى كابوسا للمُخطِّطين الاستراتيجيين فى القدس وفى تل أبيب وكذلك واشنطن، فعندما نقلب العدسة لنرى الأمر الإيجابى فى ذلك يمكن أن تعلن إسرائيل فى لجنة متابعة ميثاق عدم الانتشار النووى، والتى تنعقد فى نيويورك ضمن مداولاتها الدورية، أنها لن تسمح لإيران بالاحتكار النووى، بل ستعمل على توسيعه وستساعد السعودية للوصول إلى وضعٍ نووى متساوٍ، مما سيجعل طهران تعيد النظر فى جدوى جهودها أمام خيار جديد، فالاستثمار النووى الهائل ضدها سيجعلها تعيد النظر فى جدوى جهودها النووية، حيث لن تكون وحدها فى الفرع الإقليمى للنادى النووى الدولى»!

المعنى فيما سبق هو التخطيط لاصطناع سباق نووى، إيرانى- عربى، يلتهم استثمارات عربية هائلة، ويوفر على أمريكا وإسرائيل ثمن المواجهة المكلفة مع إيران، ولتحترق التنمية العربية، ولتستعر الحرب الطائفية الباردة أو الساخنة، لتلتهم شعوبا وتحرق بلدانا وتحول ملايين من البشر إلى نازحين هائمين فى الصحارى أو غارقين فى البحار، هذا لا يهم إسرائيل ولا راعيها الأمريكى فيما وراء الأطلسى! هذه قراءة مباشرة، أما غير المباشر، فهو أن أمريكا وإسرائيل تعلمان أن النووى العربى مجرد وسيلة لخوض حروبهما بالوكالة، ولن تُضار به إسرائيل، ومن ثم تشجع عليه إسرائيل ولا تعوقه أمريكا، عكس ما يبغبغ به الحنجوريون النوويقراطيون لدينا. طيب، لعل ذلك مجرد تحليل فردى لصحفى إسرائيلى شاطح؟ هنا ندخل بالمقال الإخبارى فى «وول ستريت جورنال»، والذى ظهر بعد المقال الإسرائيلى بأربعة أشهر ونصف تقريبا، ويقول: «هناك تحالف دولى يضم عددا من الشركات العالمية يخوض محادثات مع بعض دول الشرق الأوسط لبناء 40 مفاعلا نوويا فى عدد من الدول، من بينها مصر والسعودية والأردن- وفقا لما نقلته مصادر مشاركة فى المحادثات- ويسعى هذا التحالف لضم مجموعة لتوفير الوقود النووى اللازم للمفاعلات، وكذلك أجزاؤها الرئيسية فى مصانع بولايتى فرجينيا وتينيسى الأمريكيتين، مع سعى من هذا التحالف لعقد شراكة مع حكومة الصين أو روسيا لتتولى إحداهما التعامل مع الوقود النووى المستنفد من تلك المفاعلات والتخلص منه». وضمن بنود هذا المشروع «عدم السماح لأى من الدول العربية التى ستشارك فى المشروع بتخصيب اليورانيوم أو معالجة البلوتونيوم داخل بلادهم»!

تحذير من بيع كل شىء بلا شىء

ما سبق يمثل تفعيلاً لما أنبأنا به المُحلل السياسى الإسرائيلى فى هاآرتس من قبل، لكن فى تقرير وول ستريت جورنال ثمة إضافة تقول إن المفاعلات النووية العربية المزمعة لإنتاج الطاقة وإن كان مُرحَّبا بها أمريكيا، وإسرائيليا بالطبع، إلا أن الذهاب إلى أبعد من ذلك ممنوع! والمعنى يكمن فى تطوير المخطط الإسرائيلى من خيار مفتوح يُنذر إيران بامتلاك العرب لسلاح نووى إلى الوقوف به عند حد مجرد توليد الطاقة، وهكذا ينتفى حتى التلويح الذى كان يغازل به نوويقراطيونا غوغائية العوام، لتبقى هذه المفاعلات التى تكلف كثيرا وتنتج قليلا وبعد انتظار طويل ولا وقود لها فى أيدينا ولا تصريف موثوق لنفاياتها، فتصير مُستهلِكا فاحِشا للقليل أو الكثير الذى نمتلكه، يهد حيل الحاضر، ويرهن المستقبل للعناء والشقاء. فأى حلم هذا؟ ومن يثق فيما يحبه لنا الإسرائيليون والأمريكيون وهم كما هم عليه تجاهنا؟ وأعنى تحديدا هذا الحلف السياسى العسكرى الاستراتيجى الذى لم يثبت أبدا أنه يريد لنا الخير، مع كامل احترامى لثقافة وعلم وآداب وفنون الشعب الأمريكى. وقد يقول قائل إن المخطط النووى المرسوم لنا ولغيرنا من العرب هو محض مشروع، لكن نظرة إلى مُفاوِضى هذا التحالف مع الجانب العربى تكفى لتخبرنا مع من نتكلم: «عدد من العاملين فى البيت الأبيض والبنتاجون ووزارة الطاقة الأمريكية، بينهم مايكل هايدن، المدير السابق للمخابرات الأمريكية، وفرنسيز تاونسند، مسؤول مكافحة الإرهاب فى إدارة جورج دبليو بوش، والجنرال المتقاعد جيمس كارترايت، الرئيس السابق لهيئة أركان الجيش الأمريكى». فأى «حلم نووى» يتكلمون عنه؟

وزير الكهرباء الدكتور محمد شاكر مع مسؤولى الوزارة بعد لقاء وفد التحالف الأمريكى السعودى لعرض المشروع الموجه لمصر

ولأن الأحلام لدى الحلف الذى ذكرت لا تطيل المكوث مجرد أحلام، فإننى أُدخل بالتقرير الخبرى الثالث الذى جاء واسع الانتشار فى الصحافة العربية ومواقع الإنترنت، وقرأته فى أكثر من مكان يوم الأحد 21 يونيو 2015، أى بين الحديث الإسرائيلى والتقرير الأمريكى، ويقول إن تحالفا سعوديا- أمريكيا كشف عن طرح خمسة مشاريع لإنتاج أكثر من 59 ألف ميجاوات من الطاقة الكهربائية فى مصر بنظام حق الانتفاع BOT، بالإضافة إلى توفير نحو نصف مليون فرصة عمل، وقد أوضح خالد بن عبدالعزيز الدوسرى، الرئيس التنفيذى لركن المعرفة، أنه اجتمع مع وزير الكهرباء والطاقة المتجددة المصرى الدكتور محمد شاكر وعدد من وكلاء الوزارة، بحضور الشريك الأمريكى «بيتر بريدجر» رئيس شركة «هيدرومين» الأمريكية، وقد أعرب الدكتور محمد شاكر، وزير الكهرباء المصرى، عن سعادته لما شاهده من عرض متميز لمشاريع الطاقة المتجددة من قبل التحالف السعودى- الأمريكى. والحقيقة أن وزير الكهرباء كان حذرا فلم يذكر الشق النووى فى هذا المشروع، لكنه الشق الأكبر، تبعا لما صرح به أصحاب المشروع، وإن كان الإنصاف يدعونى إلى إبداء إعجابى بالشق المتعلق بتوليد الكهرباء من «الكتلة الحيوية» المأخوذة من النفايات، وما يتعلق بتنظيف مدن القاهرة والإسماعيلية والإسكندرية وشرم الشيخ من القمامة، فهل نكتفى بهذا الشق من ذلك المشروع، أم أن النووى المصرى صار مطلبا أمريكيا ملحا الآن، ولماذا، وماذا سنفعل؟ سؤال أوجهه لمن يهمه الأمر، خاصة والأمر بالفعل جلل، فثمة فقرة فى تقرير الجريدة الأمريكية آنفة الذِكر بشعة ومُنذرة فى حديثها عن الـ40 مفاعلا نوويا المُزمع إقامتها فى السعودية ومصر والأردن، تقول نقلا عن أوراق ذلك «التحالف الأمريكى الدولى»: «سوف لن تمتلك دولة من الشرق الأوسط، أو شركة تابعة لدولة، أو شركة خاصة، أيا من المفاعلات أو الوقود النووى»، ويضيف التحالف الذى تقوده استراتيجيا الولايات المتحدة «إذا سقط نظام حكم فإن النظام الجديد بمكانه ليست له أى حقوق فى المفاعلات أو الوقود». وكأنهم يُرتِّبون لإسقاط الأنظمة، وابتزاز الشعوب؟!

وضعت علامة الاستفهام متبوعة بعلامة التعجب لأمضى- ذاهبا إلى إجازة قلت إنها صارت حتمية لأمور خاصة، وبدأتها لكننى قطعتها لأكتب هذا المقال الواجبة كتابته فى هذه اللحظة الخطِرة- ولسوف أهتم بعد ذلك بكشف وتفنيد «الكذبة الكبرى» التى يدلِّسون بها على متخذ القرار، وتزعم أن الكهرباء المُنتَجة بالطاقة النووية هى الأرخص (سعرا)، والتى تخفى وراءها حقيقة أنها أكثر (تكلفةً)، وأبهظ أعباءً، وأظلم مستقبلاً، بشهادة شهود من الوزن الثقيل. ثم، حتى إذا جازت حتمية هذه التقنية للحصول على الطاقة لدى غيرنا ممن ليس أمامهم بديل متاح، فهذا أبعد من أن يجوز لدينا. ويبقى أنها بالتأكيد ليست طاقة المستقبل.