خلال الربع قرن الأخير، اجتاحت مصر حُمى غريبة اسمها دكتوراه من برّة، أو من الخارج، يختفى أحدهم عن الأنظار ٢٤ ساعة، ويعود اسمه الدكتور حمُكشة، أو الدكتور حنكورة، أو أيا كان، المهم أنه عاد بشهادة دكتوراه، إما مقابل مبلغ مالى، أو مقابل توصية من سفارة الدولة المعنية، أو مقابل سنوات الخدمة في مصر، هكذا تتعامل بعض الجامعات في الخارج، من باب المهزلة يعنى، أي أن عشر سنوات في العمل يقابلها ماجستير مثلا، وأكثر من ذلك يقابلها دكتوراه، ثم يتقدم هذا وذاك بالشهادة إلى جهة العمل فيطلب الترقى، والتسوية المالية، ناهيك عن أنه لن يرد على أحد إلا إذا كان النداء يا دكتور.
الغريب في الأمر أن تلك الجامعات بالخارج معترف بها في مصر، وإلا هي الأخرى لن تعترف بجامعاتنا، وبالتالى فإن دكتوراه الأربع والعشرين ساعة هذه هي أيضا معترف بها، هي تماما كأى دكتوراه لدينا استهلكت صاحبها ثلاث سنوات على الأقل، وقبلها ثلاث أخرى للماجستير، وقبلهما عامان للدبلومة، وإن كانت درجة الدكتوراه المحلية قد شابها الكثير من الملاحظات هي الأخرى، إلا أنها في النهاية جاءت بعد جهد ووقت أيضا.
كنت أعتقد للوهلة الأولى أن هذه الدكتوراه للشُهرة، أي أن هذا كل ما أراده صاحبها منها، نداء يا دكتور، أو التسوية الوظيفية، إلا أن الأمر للأسف خرج عن السيطرة، البيه الدكتور أصبح يقوم بالتدريس في بعض الجامعات، ولِمَ لا؟ هو حاصل على شهادة دكتوراه، قد يعتبر نفسه أعلى شأناً من زملائه، باعتبار شهادته مستوردة، ونحن في مصر ننحاز للمستورد في كل الأحوال، الطلبة لهم ملاحظاتهم، كما أولياء الأمور، كما العاملين بالجامعة عموما، إلا أن الدولة غائبة.
غياب الدولة هنا، كما في أي قضية أخرى، بدعوى أن الهموم كثيرة، وبالتالى لا نجد حلا لأى منها، إلا أننا أمام القضية الأخطر على الإطلاق، قضية أبنائنا الخريجين، وكأننا لم نكتفِ بسنوات الضياع في المراحل التعليمية الأولى، حيث ضعف المستوى المهنى للمدرسين، فأردنا أن نكُمل المنظومة الفاشلة بمزيد من الفشل، بضعف آخر لأساتذة الجامعات، بالتالى إتقان الضياع لدى الطلاب، بالتأكيد كانت هناك إمكانية لإنقاذ البعض، إلا أننا قضينا على البقية الباقية.
السؤال هو: لماذا هذا الصمت الرهيب على ذلك الذي يجرى، طرحت هذا السؤال، قال صديقى: صمت مَن؟ من نتهمهم بالصمت قد يكونون من حملة الإعدادية، ثم أكملوا تعليمهم بطرق ملتوية، من بيدهم الأمر قد يكونون أكثر المستفيدين من هذا التسيب، إن لم يكن هُم فأبناؤهم، فأحفادهم، رد صديق آخر: حينما تجد صمتا على كارثة تضر بالبلاد ثق تماما أن هناك مستفيدين، ابحث خلف الأبواب المغلقة سوف تجد هناك مافيا في التعليم، كما في الصحة، كما في الغذاء، كما في كل شىء تقريبا.
نحن هنا لا نطالب بمواجهة الفساد بالخارج، فليفسدوا كما شاءوا، لينفقوا أموالهم بالطريقة التي يرونها، ليحصلوا على نوبل حتى لو كان الطريق إلى ذلك إسرائيل، كما جرت العادة، لن نطالب بسحب اللقب، حتى لو كان كل منهم دكاترة، وليس دكتورا واحدا، أما حينما يتعلق الأمر بالتدريس لأبنائنا داخل حدود الدولة، فيجب أن تكون هناك ضوابط عظيمة، حتى لو كان ذلك في إحدى الجامعات الوهمية التي انتشرت هذه الأيام، وفى غفلة من الزمن.
حكى لى أحد الأصدقاء أن إحدى المصريات حاملة شهادة الدكتوراه من داخل مصر، تعمل مُدرسة لأطفال الحضانة بإحدى الولايات الأمريكية، هكذا تم تحديد مستواها، لم يرق إلى أكثر من ذلك، في كل دول العالم المتحضر، وحتى المتخلف، لم يعد هناك اعتراف بالشهادة لمجرد أنها شهادة، سواء تعلق الأمر بالبكالوريوس أو حتى بالدكتوراه، الاختبارات سوف تسبق التعيين في أي وظيفة، تحديد المستوى يصبح أهم من أي شهادة، لذا فقد تقدم أكثر من مرّة المئات من خريجى كليات الطب لشغل وظيفة طبيب في دول العالم الثالث، ولم ينجح أحد، هذه هي الحقيقة التي تخجل وسائل الإعلام من تناولها.
للأسف ضعف مستوى الخريجين هو سبب هذه الكارثة التي نتجت بالأساس من ضعف المدرس في المدرسة، ثم الدكتور في الجامعة، الأهم من كل ذلك هو أننا لم نفعل شيئا لتدارك هذا الأمر، هناك مافيا التعليم، وهناك مافيا الجامعات، والخاصة منها تحديدا، وهناك مافيا شراء الشهادات من الخارج، وهناك مافيا المستفيدين من كل ذلك، الأرباح تجاوزت لغة الملايين إلى عشرات ومئات الملايين، وأصبحت أقرب إلى التجارة والسمسرة والغش منها إلى أداء الرسالة، أو خدمة المجتمع، أو حتى الربح الحلال.
أعتقد أن الأمر جد خطير، يستدعى ثورة حقيقية، ما أكثر الثورات المزيفة.