تراجيديا «على سالم»

صلاح عيسي الجمعة 25-09-2015 21:15

في مساء الأحد الماضى شاهدت على سالم يتحدث في حوار، أجراه معه جابر القرموطى، في حلقة من برنامج «مانشيت»، الذي يقدمه على شاشة «أون. تى. فى»، وفى الليلة نفسها وبعد ساعتين شاهدته يتحدث في حوار آخر، أجراه معه عادل حمودة في برنامج «آخر النهار»، الذي تذيعه قناة «النهار».. وأدهشنى الأمر، فقد مضت سنوات اختفى خلالها وجه على سالم من شاشات التليفزيون، إذ لم تعد قضية تطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل- التي كان يدعى عادة للحوار حولها أو لمناظرة رافضى التطبيع- تشغل هذه القنوات، أو تعنى أحداً من العرب، أو تجذب إلى متابعتها مشاهداً من جيل الروشنة الثورية وغير الثورية، وربما لهذا السبب تجاهلها عادل حمودة الذي ركز حواره مع على سالم حول تحليل النكتة السياسية، بينما حرص «القرموطى» على النبش في الجراح القديمة، فوجه لضيفه عدداً من الأسئلة حول موقفه من تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل، وحول الشبهات التي أحاطت بزيارته لها ما كدت أسمع إجابة عنها حتى توقعت أن تتجدد بسببها الحملة القديمة ضده، لكن الموت حال دون ذلك، فبعد أقل من 48 ساعة من إذاعة بيان الوداع، كان على سالم يودع الدنيا.

وحين كان الزمن منتصف تسعينيات القرن الماضى، وبعد شهور من توقيع الزعيم الراحل ياسر عرفات على اتفاقيات أوسلو، مع رئيس الوزراء الإسرائيلى إسحاق رابين التي اعترف فيها كل من الطرفين بالآخر، حتى اعتبر على سالم ذلك نهاية للحرب بين أصحاب القضية من الفلسطينيين وبين إسرائيل، وبالتالى تحلل كل الأطراف غير المباشرة في هذه الحرب، ومن بينها الشعب المصرى، من أي التزامات كانت تفرضها عليها، ومنها عدم تطبيع العلاقات لحين استرداد الشعب الفلسطينى حقه في إقامة دولته، واستناداً إلى هذا المنطق المختل، الذي تجاهل حقيقة أن توقيع اتفاقية «أوسلو» لم يكن يعنى في ذاته إقامة دولة فلسطينية، قرر على سالم أن يقود سيارته وأن يتحلل من قرارات حظر التطبيع التي اتخذتها النقابات العمالية والمهنية وأحزاب المعارضة المصرية جميعها، وأن يسافر إلى إسرائيل، باعتباره داعية من دعاة السلام.

وما كاد الخبر يذاع، حتى أثار ما فعله على سالم حالة من الغضب العنيف، خاصة بين المثقفين المصريين الذين كانوا يلعبون الدور الرئيسى في حركة رفض التطبيع، وكانت مواقفهم هي الوجه البارز لنشاط هذه الحركة، وفى حين لم تلق أنشطة تطبيعية أخرى، أوسع مدى وأكثر خطراً من التطبيع الثقافى الذي كان محدوداً، نفس الحماس من المثقفين للدعوة لمقاطعتها أو التنديد بمن يقومون بها، ومن بينها التطبيع في مجالات الزراعة والصناعة والسياحة والتبادل التجارى، فقد تركزت حملاتهم على المثقفين الذين يمارسون أي شكل من أشكال التطبيع، ووصلت إلى ذروتها ضد ما فعله على سالم، فاعتبروا ما فعله خيانة عظمى، وشكك بعضهم في أنه عميل إسرائيلى، تقاضى أجراً مقابل الخطوة التي قام بها، ودفعت آخرين إلى مقاطعته وعدم مصافحته، وعلى عكس آراء بعضهم النقدية السابقة في أعماله المسرحية، ذهبوا إلى القول بأنه كاتب تافه، وأن ما كتبه من مسرحيات إنما هو لغو مسرحى لا قيمة له.

ومع أن الغضب قد تملكنى، كما تملك غيرى من رافضى التطبيع، ومع أننى قدرت الأسباب التي تدفع بعضهم إلى المبالغة في التنديد به، ومن بينها أنه كان أول كاتب كبير وذو قيمة، ينتقل إلى الضفة الأخرى ويتحول إلى داعية للتطبيع مع إسرائيل، إلا أننى وجدت في هذا الغلو في الهجوم عليه، إلى حد محاولة اغتياله معنوياً، وحرمانه من أي فضل أو فضيلة، وتجريده من كل موهبة أو ميزة، خطأ فاحشاً سوف يدفعه إلى العناد، وإلى اللدد في الخصومة، ويلقى به بين براثن الطرف الآخر.. وكان من رأيى- قبل ذلك وبعد ذلك- أن علينا في حركة رفض التطبيع، أن نتعامل مع المطبعين- خاصة من كان منهم يقف معنا في المعسكر نفسه قبل أن يغير موقفه- باعتبارهم أصحاب وجهة نظر خاطئة ومضرة بالمصلحة الوطنية والقومية، لن تحقق سلاماً أو تعيد حقاً كما يتوهمون، وبأسلوب يدفعهم للعدول عن موقفهم، لأن ذلك أفضل لنا ولحركة رفض التطبيع، من أن نأخذ بحقنا شتائم لهم، وسباباً فيهم، واتهامات بالخيانة والعمالة نحن أول من يعلم أنها غير صحيحة!

وهذا الخطأ، الذي لايزال شائعاً حتى الآن، في معالجة بعضنا لمواقف كثيرين ممن يختلف معهم هو الذي دفع على سالم- في تقديرى- للمبالغة في الدفاع عن الموقف الخاطئ الذي اتخذه بقرار سفره لإسرائيل، والذى كان يمكن أن يتراجع عنه، لولا هذه المبالغة في رد الفعل، التي حولته إلى رمز للشر، وجعلته هدفاً للعدوان السارح الذي لا يجد هدفاً يتوجه إليه، فسكنت المرارة حلقه خلال الأعوام العشرين الأخيرة من حياته.

وفى إحدى المرات الكثيرة، التي صحبته فيها إلى عاصمة عربية، لكى نشترك في مناظرة تليفزيونية حول قضية التطبيع، حاولت أن أقنعه ونحن في طريق العودة بأن الكاتب والفنان والسياسى، لا يجوز له أن يتخذ مواقف تصدم مشاعر الرأى العام، مهما كان يعتقد أنه على صواب، لأن ذلك يعزله عن التأثير فيهم، ومع أنه خالفنى في مرافعة طويلة، مؤكداً أن مهمة الكاتب والفنان والسياسى أن يقود الرأى العام لا أن ينقاد له، وأن يقول له ما يعتقد أنه الصواب مهما صدمه ذلك.. إلا أنه عاد في نهاية المرافعة ليقول لى وهو ينظر من نافذة الطائرة وكأنه يحدث نفسه: ومع ذلك يمكن يكون عندك حق!