ما من شك أن هيكل هو أستاذ الأساتذة وصحفى قلما يتكرر، ولن ترى مصر مثله قبل عقود طويلة، فهو رئيس تحرير متميز جدا فى علاقاته بزملائه وأنداده واحترامه لأصول وتقاليد وقواعد وأعراف المهنة، كما تميز بنزاهته وطريقة إدارته، ولأن المسائل نسبية فإننى أرى أنه كان أعدل من جاء رئيسا لمجلس الإدارة ورئاسة تحرير الأهرام، خاصة أن المهنة كثيرا ما تتدخل فيها العواطف والحب والكراهية والشللية، وكان أكثر موضوعية، ومن مميزاته الكثيرة أنه كان يتحمل مسؤولية من يعملون معه.
وأذكر أننى حينما سجنت فى اليمن، وحوكمت وكاد يصدر بحقى حكم بخمسة وعشرين عاما بتهمة إشاعة أسرار عسكرية (ولم تكن أسرارا ولا يحزنون)، وقد حرصت ألا يصل الخبر إلى الأهرام، لكنه عرف، وبذل كل ما يستطيع من جهد ومساعٍ، وخاض معارك كثيرة مع قيادات من أجلى، وأمكنه إنقاذى وفعل الشىء نفسه مع زملاء آخرين ممن تعرضوا لضغوط من قيادات سياسية، فكان بذلك مظلة لحماية الصحفيين، وحين جاء إلى الأهرام، وكنت موجودا فيها قبله بستة أشهر، سألوه كيف سيصدر عدد الأهرام غدا فقال: «زى ما صدر إمبارح».
وعلى مدى عام واحد كان الأهرام قد تغير شكلاً ومحتوى على نحو متطور، ودعم الأهرام بكتاب متميزين مثلوا كل الأطياف، فمن الأخبار استقدم أربعة، أذكر منهم صلاح منتصر، وصلاح جلال، كما عين نحو ثلاثين شابا يمثلون مدرسة وتوجها صحفيا جديدا، أذكر منهم سناء البيسى، وفهمى هويدى، وبهيرة مختار، ثم فوق هذا أضاف لكتاب الأهرام كتابا يمثلون ثقلا وتنوعا فكريا، أذكر منهم صلاح جاهين، وتوفيق الحكيم، وزكى نجيب محمود، ونجيب محفوظ، وبنت الشاطئ، وغيرهم من الكتاب والمفكرين البارزين، ليؤسس بذلك أنضج وأكمل هيئة تحرير على طول التاريخ، وكان هيكل يرعى كل هؤلاء وتعامل مع الجميع ببراعة شديدة، وأسس لمدرسة جديدة وقوية فى الصحافة المصرية، واهتم كثيرا بمصداقية الخبر ودقته، ولذلك كانت حالة الرفت الوحيدة فى الأهرام لصحفى فى الشؤون العربية نشر خبرا لصالح دولة معينة.
ولقد أعطى هيكل للمصريين معلومات كثيرة، وكان حريصًا على الحياد كتب «عبدالناصر ليس أسطورة»، كما كتب عن مظاهرات الطيران، وأفسح المجال للكاتب جمال العطيفى ليكتب 4 مقالات عن ضرورة التغيير، وكانت رؤيته للنكسة أن الذين تعرضوا للهزيمة هم من خططوا وقرروا وليس الذين حاربوا، وقد اتسعت مساحة الحرية فى الأهرام فى عهده، وتشهد على ذلك مقالات توفيق الحكيم فى تلك الفترة، وأصبح الأهرام منبرا ينادى بالتغيير.
وأخيرًا كان هيكل نزيها، لم يحدث أن استغل منصبه أو علاقاته لتحقيق مكاسب شخصية، وكان كثير من تلاميذه يقلدونه من حيث الملبس أو أسلوب الكتابة، ولكن هؤلاء لم يبرزوا، حيث تقول القاعدة: «إما أن تكون ذاتك أو لن تكون»، وكان أثناء مسؤوليته كرئيس تحرير يحب المبتكرين والمبادرين والنشطين، كما كان فى بحث دائب عن صحفى جيد ومتميز.
ويتميز الأستاذ هيكل باستشعاره العالى للمستقبل، وكان دائماً فى صف شباب المهنة، وكان يعطى الفرص للموهوبين ولا يغلق بابه دونهم، بل كان فى حالة بحث دائم عنهم، وكان أعظم من أعطى مثالاً فى كيف يمكن للصحفى أن يحاور السلطة ويتوافق معها فى إطار علاقة تقوم على الاحترام المتبادل، لقد جعل هيكل من صحيفة الأهرام واحدة من أعظم عشر صحف فى العالم، وجعل الصحفى معتزا بذاته ومحترما.
أما عن علاقتى به، فقد كنا فى حالة حوار دائم، وهى حالة حوار ذات تضاريس فكرية ومنهجية متباينة، لكنها كانت تقوم على الاحترام، وكنا نختلف ونتفق فى علاقة صريحة لا تعرف المواربة.