يا برتقال أصفر وجديد بكرة الوقفة وبعده العيد

أيمن الجندي الثلاثاء 22-09-2015 21:10

ما الذي أعاد هذا النشيد لذاكرتى؟ ما الذي جعلنى أتذكره بعد هذه السنين التي لو حاولت أن أحصيها ما استطعت؟

الوقت كما أذكره ضحى. اليوم: وقفة عرفات أو قبلها بيوم! كنت قصيرا، صغيرا، نضرا، جديدا، متحمسا.. وسعيدا أيضا. أذكر أننى كنت قافلا من بيت جدتى، وفجأة، وفى منتصف الطريق، ودون مبالاة بالمارة الذين لا شك ابتسموا وهم يشاهدوننى أهتف في حماس:

«يا برتقال أصفر وجديد. بكره الوقفة وبعده العيد».

■ ■ ■

البرتقال صفاره يحاكى الذهب. أتذكره هكذا. البرتقال كان جديدا بالفعل. مقطوفا من الحدائق لتوه. مستديرا ومشدود البشرة. كل شىء كان جديدا وليس البرتقال فحسب. أنا جديد.. والعالم جديد.. والقمر جديد.. والشمس نفسها جديدة لم ينالها الهرم.

أذكر أيضا متى سمعت هذا النشيد. سمعته من أخى الأكبر. كان يحتفى بالعيد وبالمسرات القادمة. يغنى له لأن سعادته حقيقية. العيد يعنى مصروفا دسما يتصرف به كما يشاء دون وصاية أموية. العيد يعنى ملاه ونزهات وسينمات وشكولاتات وبنبون وبلالين ولبان وغزل بنات وسكر نبات وعشرات الأشياء المبهجة. العيد يعنى أن يتدفق علينا أقاربنا الصغار الذين لا نراهم إلا في العطلات! العيد يعنى الاستيقاظ مبكرا وصلاة العيد وركوب الدراجات والثياب الجديدة الملونة.

ما زلت أذكر هذه الأيام الأسطورية. أخرج من بيتى فأجد عم فرح في انتظارى. البواب العجوز الصعيدى الذي كان يحلو له أن يدعونى للجلوس معه على الدكة الخشبية والتحدث في السياسة. وكنت أتلقف الدعوة سعيدا بأهميتى الطارئة. على يمين البيت كشك عم «نور» المُهجّر من السويس بعد هزيمة يونيو. على يسارى مسجد طفولتى تجففه الشمس بعد أن تغسله روائح الحديقة الخلفية. وفى داخله يقبع «الشيخ أحمد» كمؤذن فاطمى تسلل من العصور القديمة.

الطريق إلى بيت جدتى له علامات. أهمها الفلل الصغيرة التي تحوطها شجيرات الياسمين التي تهب عطرها في المساء بأريحية مدهشة. هناك أيضا دكان عم عيد ودكان عم فوزى. على الأرفف سلع قليلة لا تقارن بما نراه الآن في المحلات. لكننى أزعم أن مذاقها كان أجمل بكثير، نستشعره بقلوبنا قبل حلوقنا. البهجة التي تصنعها الندرة، مصر الخارجة من حرب، مصر المسكينة! مصر المُتعبة المنهكة.

أنسل من باب جدتى بمجرد الدخول إلى الشرفة. ألاقى بالشغف أقاربى الصغار الذين لم أرهم من العطلة السابقة. نجلس على حافة الشرفة مثل العصافير الصغار الواقفة على سلوك الكهرباء، وبرغم ذلك لا يمسها سوء. نحكى عما فعلناه منذ آخر مرة تلاقينا. نبتكر الألعاب المسلية. رغم ندرة الألعاب كنا قادرين دائما أن نسلّى أنفسنا. من لا شىء تقريبا نبتكر عالما ثريا مليئا بالألعاب الممتعة. ولم نكن ندرى شيئا عما تخبئه الأيام لنا. من فينا ستجامله الأيام ومن فينا ستنهكه؟ كنا غافلين عن الضجيج الذي يملأ العالم. والذى سنصطلى بآذاه عما قريب حتى نتوسل أن تعود أيامنا الماضية.

وكثيرا ما أفكر: ألم يكن من الأفضل أن نحظى بهذه الغفلة في أواخر أعمارنا لا في بدايتها؟ أليس عجيبا أن نُكافئ قبل أن نفعل أي شىء؟ بينما تدخر الأيام المرض والاكتئاب في ختام الرحلة.

ومن يدرى؟ ربما يأتى على الإنسان حين من الزمان يهيئون للكبار من دواعى السرور، فينعمون مثلما ينعم الأطفال بالأعياد والبرتقال المستدير الجديد الذي يشبه الذهب.

aymanguindy@yahoo.com