(ا)
«فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ».
البقرة: 173
(2)
«كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وكان عصر الحماقة، كان عهد اليقين وكان عهد الحيرة، كان موسم النور وكان موسم الظلام، كان ربيع الأمل وكان شتاء اليأس، كنا نملك كل شىء ولم يكن لدينا شىء على الإطلاق، كنا جميعاً فى طريقنا إلى الفردوس، وكنا جميعاً فى طريقنا إلى الجحيم. باختصار، تلك أيام كأيامنا هذه، التى أصرّ أكثر مؤرخيها صخباً على وصفها، فى خيرها وشرها، بأقصى صور المبالغة».
تشارلز ديكنز فى مستهلّ رواية «قصة مدينتين»، متحدثاً عن الثورة الفرنسية.
(3)
سيادة الرئيس عبدالفتاح السيسى.. رئيس جمهورية مصر العربية:
تحية طيبة وبعد،
أكتب إليكم خطابى هذا بعد أيام ليست بالطويلة على صدور حكم بحبسى ثلاث سنوات، وهو ما أعتقد أنه عقوبة على جريمة لم أرتكبها. وسوف أواصل جهودى لالتماس كل الوسائل القانونية التى تتيح لى تعديل هذا الوضع، موقناً بأن ثمة ملابسات وظروفاً تحيط بكل قضية، وتقرِّب الحكم فيها من حدود العدالة أو تبعده عنها قليلاً أو كثيراً، وأن ما مرت به مصر خلال سنوات أربعة اختلطت فيها الطرق، وتبدلت فيها المواقف والمواقع والأفكار والاصطفافات من النقيض إلى النقيض فى بعض الأحيان، ربما تكون قد أسهمت فى وصول قضيتى إلى المحطة التى توقفت عندها فى الوقت الحالى.
وما سبق، على أهميته، لا يمثل دافعى لكتابة هذا الخطاب إليكم، وإن كان يرتبط به أوثق الارتباط، فما حدا بى إلى كتابة رسالتى هذه هو رغبتى فى استرداد جنسيتى المصرية، التى أُكرهت على التنازل عنها، ومورست علىّ ضغوط من جهات نافذة بشأنها على غير رغبة منى أو اختيار.
وليست هذه هى المرة الأولى التى أتحدث فيها عن مثل هذه الضغوط، فقد سبق لى أن أشرت إليها خلال إجراءات محاكمتى، وفى حوارات ولقاءات صحفية كثيرة أجريت معى على مدى سبعة أشهر. ويبدو أن من مارس الضغوط خلال تلك المرحلة من عمر القضية، كان يفترض لها مساراً معيناً لم يُقدَّر له أن يتحقق لاعتبارات لا أعلمها.
وما أريد التركيز عليه فى هذا الشأن نقطتان: الأولى أن الضغوط التى مورست علىّ كانت مشفوعة بإشارات إلى أن بقائى فى مصر مضمونٌ، وأن استعادة الجنسية ممكنةٌ من خلال إجراءات ميسَّرة بعد أن تنتهى الجلبة المحيطة بالقضية. والثانية، أن عوامل شتى طبية ونفسية تحالفت وقت أقدمتُ على هذه الخطوة وأثرت فى عزيمتى وإرادتى وقدرتى على الاحتمال، ودفعتنى إلى قبول ما أُكرهت عليه ورفضته فى بداية الأمر.
تتعلق العوامل الطبية بتخوف وقلق مستمرين من نشاط فيروس الالتهاب الكبدى الوبائى (سي) لدىّ أو حدوث مضاعفات مرتبطة به دون أن أستطيع تشخيصها وعلاجها فى الوقت المناسب بحكم ظروف سجنى، وبإصابة فى كتفى قاسيت فيها ألواناً من الألم، ولم أتلق من الرعاية الطبية ما يساعد على الشفاء منها.
أما العوامل النفسية فتتعلق بأجواء من التحريض والتخوين ودعوات للانتقام كانت أصداؤها تصلنى وأنا بين أسوار مصمتة. والسجن فى ذاته يمكن احتماله، أما حملات التشويه والتجريد من الوطنية والمطالبة المحمومة برقابنا، فكانت فوق طاقتى على الاحتمال.
فى هذا السياق، تقدمت بطلب للتنازل عن جنسيتى. ولعل الزمن لو عاد بى ما أقدمت على هذه الخطوة، ولكننى أستطيع أن أؤكد، مطمئناً، أن الأغلبية الساحقة من المصريين قد اتخذت خلال السنوات الأخيرة مواقف تتمنى لو أتيح لها أن تتراجع عنها.
سيادة الرئيس:
إن مواقفى السياسية معلنة، وانحيازاتى وقناعاتى ليست سراً، ولم أكن يوماً من الأيام قريباً من جماعة الإخوان المسلمين فكراً أو تنظيماً، ولم تحظ منى بالتعاطف حتى فى الأيام التى تمكَّنتْ فيها الجماعة من خداع حسنى النيّة من المصريين. وكنت واحداً من الملايين الذين خرجوا فى 30 يونيو 2013 ضد طغيان الجماعة واستبدادها، ولمنع مصر من أن تمضى إلى هاوية كانت تتجه إليها آنذاك. وكنت واحداً من الملايين الذين رأوا فى تحرُّك القوات المسلحة المصرية انتصاراً لإرادة الشعب المصرى، وطريقاً إلى العبور بمصر نحو الاستقرار والتقدم والتنمية.
لم يمنعنى ألمى الشخصى خلال عامين تقريباً من أن أقف بحزم أمام جهات إقليمية ودولية سعت إلى استغلال قضيتى للضغط على مصر، أو الإساءة إليها، على الرغم من اقتناعى بعدالة موقفى، وعلى الرغم من الإرهاق المعنوى البالغ الذى واجهته فى كثير من الأوقات.
لم أتوقف يوماً عن المشاركة فى الأنشطة الوطنية، وكان تبرُّعى لصندوق «تحيا مصر» فى عام 2014، وتبرعى بالقيمة المالية لـ«الجائزة الدولية للحرية الصحفية» لأسرة الصحفية الراحلة ميادة أشرف- جزءاً من سلوك التزمته طيلة مسيرتى المهنية باعتباره واجباً وطنياً، وحقاً لمصر علىّ أؤديه عن طيب خاطر. ولم يمنعنى ألمى الشخصى كذلك من أن أضع ما أتعرض له فى سياق أعرف أن له متطلباته، وإن لم أوافق على الاعتبارات التى تحكمها أو أرى فيها ما يخدم مصلحة بلدى.
لقد حرصت طيلة مسيرتى المهنية على التزام الحياد والنزاهة والمصداقية والتحقق من كل الأعمال التى أنجزها أو أشارك فيها. وكان انضمامى إلى قناة الجزيرة الإنجليزية، بعد عملى فى قنوات دولية ومحلية مرموقة، مشروطاً بمراعاة هذه المعايير، ولم تزد فترة عملى فى القناة على ثلاثة أشهر، كنت أختبر خلالها التزام القناة بتنفيذ شروطى، وما كنت لأتردد فى مغادرتها إذا ثبت لى عكس ذلك، ولكن الوقت لم يتسع للتقييم وإجراء المراجعات، إذ جاء القبض علىّ مع زملاء لى لينحو بالقضية منحى آخر لم يكن بالحسبان. ولن أعيد مناقشة الاتهامات ببث الشائعات أو نشر أخبار كاذبة، فهى الآن، وبعد أن أصدرت المحكمة حكمها، تزيُّد فى غير محله.
المعايير المهنية ذاتها، وليس مشاعر الثأر أو الانتقام، هى ما دفعنى إلى توضيح الأخطاء والتجاوزات التى ارتكبتها شبكة قنوات الجزيرة، بعد عمليات بحث وتقصٍّ قمت بها، وهو ما أعلنته فى مؤتمر صحفى استقطب اهتماماً عالمياً، فضحت خلاله ممارساتها الخطأ. والمعايير المهنية ذاتها هى التى أقمت بناءً عليها دعوى قضائية ضد «الجزيرة» فى كندا، بحكم أننى أحمل جنسيتها.
سيدى الرئيس:
وُلدت مصرياً، وتجرى مصريتى فى دمى، وما كان لى أن أرتكب ما يسىء إلى مصر، وإذا كان القضاء قد رأى أننى أستحق العقاب فإن لذلك سياقاته. وكحفيد لقاضٍ، فإننى أعلم جيداً ما يمتلكه القضاء المصرى من قيم وتقاليد، وكحفيد لرجل كان مديراً لأمن واحدة من أكبر المحافظات، فإننى لا يمكن أن ارتكب ما يمس أمن بلدى، وكرجل تجرى فى عروقه الدماء نفسها التى تجرى فى عروق كثير من رجال القوات المسلحة، وتجمعه بهم أوثق روابط القربى، فإننى أقدِّر تماماً ما تبذله هذه المؤسسة من جهود من أجل الوطن.
لأسباب مختلفة، هناك فى العالم ملايين البشر يعيشون من دون جنسية. وهى مخالَفة للقوانين الدولية، لكنها واقع قائم. وهؤلاء الأشخاص يبحثون عن أى جنسية ليتمكنوا من ممارسة كثير من الحقوق التى حُرموا منها. ومن دون أى تقليل من شأن هؤلاء الناس فإننى لست منهم، وأحمل الجنسية الكندية، وأتلقى عروضاً لحمل جنسيات دول أخرى لأسباب تتعلق بظروف عملى وقضيتى التى تهتم بها جهات كثيرة ودول شتى، بحكم طبيعتها، لا بحكم شخصى أو هويتى كفرد. ولكننى فى الحقيقة لا أريد إلا جنسية بلدى.
سيدى الرئيس:
أريد استعادة جنسيتى.
(4)
فى 2 فبراير 2006 غرقت عبَّارة مصرية وفقدت مصر ألفاً من أبنائها، نتيجة أخطاء فادحة.. أكثر من ألف مصرى ابتلعتهم مياه البحر الأحمر الباردة، فى موت أقرب إلى القتل. وفى 27 يوليو 2008 حصل كل المتهمين فى القضية على البراءة. وللقضاء دواعيه وأسبابه وأسانيده، وللحكم حيثياته.
(5)
اختلف رئيس الأركان مع رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة نتيجة اختلاف وجهات النظر فى إدارة حرب مصيرية، ووجّه رئيس الجمهورية اتهامات لرئيس الأركان ليرد الضابط الكبير بكتاب يشرح فيه موقفه. ووُجِّهت إلى رئيس الأركان اتهامات بإفشاء أسرار عسكرية وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات (المدة نفسها.. أى صدفة؟!)، وعاد إلى وطنه ليقضى نصف السنوات الثلاثة مسجوناً، قبل أن يخرج بعفو روتينى لم يشمله وحده.
فى 10 فبراير 2011، انتقل رئيس الأركان إلى رحمة ربه فبكت عليه مصر كلها، وصلى عليه الملايين صلاة الغائب. وبعدها بأسبوعين أعاد إليه المجلس الأعلى للقوات المسلحة أوسمته التى كان الحكم القضائى قد جرّده منها. وكنت سيادة الرئيس أحد أعضاء المجلس الأعلى الذين اتخذوا هذا القرار.
(6)
العدل أوسع وأكبر من اجتهادات الموكَّلين به، والزمن وفطرة الإنسان وقلوب الناس وعقولهم قضاة أكثر إنصافاً وصدقاً فى كثير من الأحيان.
(7)
«وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ».
الطور: 48