هيكل الصحفي: مراسل تحت النيران.. ومُنقذ جريدة «شاخت مع الأيام»

كتب: رضا غُنيم الثلاثاء 22-09-2015 16:45

بدون أي لون أو توجّه سياسي، بدأ هيكل رحلته في «بلاط صاحبة الجلالة» في فبراير 1942، حينما التحق بقسم الحوادث في صحيفة «الإيجيبشان جازيت»، في وقت كانت فيه مصر مسرح مواجهات بين القوى العظمى، إذ كان الإنجليز في مواجهة الألمان بمعركة العلمين.

وجد هيكل نفسه، حسبما يقول، في جو صحافة عملية، وبين رجلين كان لهما التأثير البالغ على بنائه الصحفي الأول، سكوت واطسون الذي كان يتمتع بثقافة يسارية غذتها تجربة الحرب الأهلية الإسبانية، وهارولد إيرل، رئيس تحرير «الإيجبيشان جازيت»، وكان صحفيًا كلاسيكيًا قديرًا.

في الصحيفة الإنجليزية، صنع «هيكل» أولى خباطاته الصحفية قبل أن يتم العشرين من عمره، حينما عهد إليه رئيس التحرير مع 4 من زملائه بإجراء استطلاع للرأي بين «بنات الليل»، عقب قرار إلغاء نشاط البغاء في مصر، وعقب معاناة لمدة يومين، نجح في التعرف على معلمة تدير أحد المقاهي بحي الأزبكية، وشرح لها مهمته، وتواصل عبرها مع بعض الفتيات، وتمكن من ملّ ما يقرب من ١٧٠ استمارة، ثم صنع «الخبطة الثانية»، في تغطيته لوباء الملاريا الذي انتشر في محافظة أسيوط،

بعد ذلك، وجد هيكل نفسه في قلب معركة العلمين، حيث طلب رئيس تحرير «الإيجيبشان جازيت»، من الصحفيين أن يصفوا المعركة بـ«عيون مصرية»، والسفر إلى هناك، وافق هيكل ليسجل تجربة شديدة الثراء، واصفًا آثارها على حياته بقوله: «في الماضي، وعندما كنت أعمل في قسم الأخبار، كانت جريمة ما تبدو لي وكأنها قمة المأساة الإنسانية، هذا ما يحدث عندما يلجأ رجل إلى القوة عندما يعجز عن حل تناقضاته مع الآخرين عن طريق العقل، وخلال تجربتي الصحفية كان يبدو لي وكأن الحرب هي قمة المأساة الإنسانية على مستوى الشعوب والأمم، عندما يقف أحد المجتمعات عاجزًا عن حل صراعاته مع مجتمعات أخرى بواسطة العقل، فإنه يلجأ إلى القوة»، وتولدت لديه ميزة تحليل الدبلوماسية، والعلاقات الدولية والاستراتيجيات العسكرية.

في لقاء عُقد عام 1944 بمكتب هارولد إيرل، رئيس تحرير «الإيجيبشان جازيت»، أقنع محمد التابعي، أشهر صحفيي مصر آنذاك، في إقناع هيكل، بالانتقال إلى «آخر ساعة» التي يرأس تحريرها، بعدما قال له إن «الصحفي المصري يجب أن يلعب دوره في الصحافة المصرية، وباللغة العربية.. هذا هو المستقبل»، ولقبه بـ«ساحر آخر ساعة»، إذ كان هيكل يعمل مراسلًا، ويقوم بأعمال السكرتارية، ويلخص تقارير المراسلين، وينقل له روايات المراسلين الأجانب عن مغامرات الملك فاروق، وبقى فيها عامين (1944- 1946).

انضمت «آخر ساعة» إلى «أخبار اليوم» التي أسسها الأخوين على ومصطفى أمين، عُين هيكل في أول مايو 1946 بمرتب 30 جنيهًا، وفي العام 1948 قرر السفر إلى فلسطين لتغطية الأحداث التي تجرى هناك، ونجحت رسائله الصحفية التي غطت الحرب، وحصل عليها على علاوة 10 جنيهات، لتكون ثالث حرب يغطيها خلال عمله في الصحافة الذي لم يتجاوز حينها الـ6 سنوات، وأشاد خلالها الجميع بموهبته الصحفية.

يقول هيكل عن تلك الفترة: «هكذا وجدتني باحثًا عن المتاعب في كل مكان، أغطي الحوادث الساخنة في الشرق الأوسط وحوله، من الحرب الأهلية في اليونان وقد شملت كل البلقان، إلى حرب فلسطين من أولها لآخرها، إلى سلسلة الانقلابات العسكرية في سوريا، إلى عمليات الاغتيال الكبري في المنطقة من اغتيال الملك عبدالله في القدس إلى اغتيال رياض الصلح في عمان إلى قتل حسني الزعيم في دمشق، ثم إلى ثورة مصدق في إيران، ثم اتسعت المسافات فإذا أنا أغطي المشاكل الملتهبة في قلب أفريقيا، ثم حرب كوريا وحرب الهند الصينية الأولي».

وعرف هيكل داخل «آخر ساعة» أولى اتصالاته بدوائر السلطة، إذ نشر مقالات عن الحياة السياسية والأحزاب، يقول جمال الشلبي في كتابه «محمد حسنين هيكل.. استمرارية أم تحوّل؟»: «كان هيكل يبرهن عن صبر عجيب في جميع المعلومات عن زعماء الأحزاب، ويروي أنه ظل ليلة نهارًا بأكملها واقفًا أمام منزل الدكتور محمد حسين هيكل زعيم الحزب الليبرالي الدستوري، وهو حزب الاستقراطية المصرية، ليعرف ما إذا كان أحد الوزراء الوفديين سيأتي لزيارته، وذلك لأنه كان يشك بأن هذا الوزير يسرب للمعارضة معلومات عن حزب الوفد الحاكم آنذاك»، وفيها أيضًا عبر عن آرائه، وجمع بين صحافة الخبر وصحافة الرأي، وأصبح «هيكل» اسما في عالم الصحافة يتردد في أروقتها كلما سطّر خبرًا أو مقالًا أو تحقيقًا.

يقول هيكل: «اكتشفت أن كثيرين من الناس يهتمون بما كنت أكتب، ثم أصبحت على إطلاع بما يحدث في دول أخرى، ثم أقمت اتصالات مع رجال سياسة، ومع جيل كامل من الصحفيين في كل أنحاء العالم، لكن الأمر الأكثر حسمًا هو أن أبواب السياسة المصرية قد فُتحت على مصراعيها أمامي».

وحصل خلال تلك الفترة على جائزة «فاروق الأول للصحافة العربية»، عن سلسلة التحقيقات التي أجراها في قرية القرين بمحافظة الشرقية، التي انتشر فيها وباء «الكوليرا» بعنوان «الحياة في قرية الموت».

بعد 5 سنوات في «أخبار اليوم»، عُين هيكل رئيسًا لتحرير «آخر ساعة»، في 18 يونيو 1952، بعدما أعلن على أمين استقالته، وتعيينه لهيكل بدلًا منه تقديرًا لموهبته وجهده.

بعد اندلاع ثورة يوليو 1952، رفض هيكل عرضًا من جمال عبدالناصر، لرئاسة تحرير صحيفة «الجمهورية»، مبررًا رفضه بأن «الثورة لا تحتاج جرائد تعبر عنها، فكل صحافة مصر تفعل هذا الشيء، بجانب أنه متمسك بأخبار اليوم، ومتمسك بعمله فيها وبصداقته مع أصحابها»، قبل أن يتركها في 1 أغسطس 1957، ويُوضع اسمه على العدد رقم 2600 رئيسًا لتحرير «الأهرام».

كانت «الأهرام» عاجزة عن المنافسة، وعلى حد تعبير الكاتب الصحفي عادل حمودة، «شاخت مع الأيام»، لذلك كان قبول هيكل لرئاسة تحريرها امتحانًا مهنيًا حقيقيًا، بقى فيها 17 عامًا، وحقق نجاحًا مذهلًا، جعلها من ضمن أفضل 10 صحف في العالم، حتى أن باعة الصحف كانوا يصفونها بـ«أهرام هيكل»، وارتفع توزيعها من 60 ألف نسخة إلى 350 ألف، وعد الجمعة وصل توزيعه إلى 750 ألف نسخة، وصار مقاله «بصراحة» من أهم المقالات المقرؤة في الوطن العربي، ثم انسحب منها في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عام 1974، ليتفرغ بعدها للكتابة.