السفير البريطانى كانت أمنيته أن يتنازل فاروق عن عرشه:
الحقيقة لها أكثر من وجه، وربما كان ضرورياً أن يعرف الذى يتابع هذه الحلقات «واقعة 4 فبراير 42» من الجانب الآخر.. جانب الإنجليز أو سير مايلز لامبسون، سفير بريطانيا فى مصر، وكان قد بدأ عمله عام 1934 أيام فؤاد ونما مركزه خاصة بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية ومعارك الصحراء الغربية مع الألمان والتى لو خسرها الإنجليز لتغيرت مسيرة الحرب. وقد استمر لامبسون فى مصر إلى عام 1946 وكان يوم عودته لبلاده فى ذلك الوقت أسعد يوم فى حياة الملك فاروق، فلم ينس فاروق لهذا السفير وقفته أمامه فى مكتبه بقصر عابدين كوحش كاسر يخيره بين التنازل عن العرش أو تكليف مصطفى النحاس برئاسة الوزارة.
فى تقريره إلى وزير خارجيته، سير أنتونى إيدن، سجل لامبسون تفاصيل ما حدث فى قصر عابدين يوم 4 فبراير 42، وكان من بين ما جاء فى هذا التقرير ما يلى:
1- فى الساعة التاسعة، مساء، وصلت إلى قصر عابدين مصحوباً بالجنرال ستون (قائد القوات البريطانية فى مصر) ومعنا مجموعة منتقاة من الضباط الذين يمثلون كل أسلحة القوات وكانوا مسلحين حتى الأسنان. وفى طريقنا إلى القصر مررنا بقواتنا التى كانت تتقدم فى الظلام متجهة إلى القصر لاستكمال حصاره. وعندما وصلنا كان فى وسعى أن أرى نظرة ذهول فى عيون تشريفاتية القصر الذين وقفوا فى استقبالنا عند مدخله. وكانت نظراتهم الذاهلة أول إشارة لى بأن المظاهرة التى قمنا بها حققت آثارها المبدئية.
2- بعد نحو خمس دقائق من التأخير أمام مكتب الملك فى الطابق الثانى، دعيت إلى المكتب فى نفس اللحظة التى كنت فيها على وشك أن أبلغ رئيس الأمناء بأننى لست مستعدا للانتظار ثانية واحدة، وتوجهت فى الممر المؤدى إلى مكتب الملك ومعى الجنرال ستون، ولكن كبير الأمناء حاول منعه من مرافقتى، وقد أزحته جانبا بذراعى ودخلنا إلى مكتب الملك.
3- بدا الملك فاروق مأخوذاً وسألنى إذا كان يمكن أن يستبقى «أحمد حسنين» معنا أثناء المقابلة ووافقت على طلبه.
4- مضيت مباشرة إلى مهمتى وقلت للملك إننى كنت أتوقع منه رداً بـ«لا أو نعم» فى الساعة السادسة على الرسالة التى بعثت بها إلى القصر صباح اليوم، وبدلاً من ذلك جاءنى «حسنين» فى الساعة السادسة والربع برسالة اعتبرتها رداً بـ«لا». وأنا الآن أريد أن أعرف وبدون مراوغة هل هى «نعم» أم «لا». وبدا أن الملك يفكر.. ولم أترك له فرصة وإنما أكملت كلامى على الفور مبدياً له بازدراء شديد أن الأمور وصلت إلى نقطة خطيرة، وأنه بناء على السلطات المخولة لى أطلب منه توقيع وثيقة بالتنازل عن العرش وليس أمامه سوى أن يوقع عليها فورا وإلا فإننى سوف أتخذ إجراءات أخرى للتصرف معه قد لا ترضيه. وناولته ورقة التنازل.
5- تردد الملك لثوانٍ وأحسست أنه سوف يأخذ القلم ويوقع، لكن «حسنين» تدخل باللغة العربية وقال شيئاً للملك الذى توقف وبدا عليه الهلع وسألنى بطريقة محزنه إذا كان يمكن إعطاؤه فرصة أخرى وأخيرة. وقلت إننى لابد أن أعرف فورا وبدون مراوغة ما الذى ينوى عمله؟ فأجاب بأنه ينوى استدعاء النحاس على الفور، وزاد فاقترح أن يدعو النحاس فى وجودى إذا أردت وأن يكلفه على مسمع منى بتشكيل وزارة جديدة. وقلت إننى على استعداد لأن أعطيه فرصة أخيرة لأنى أريد أن أجنب بلاده تعقيدات قد لا تكون سهلة فى هذه الظروف، ولكن عليه أن يدرك أن تصرفه لابد أن يكون فوريا. وقال مرة أخرى بصوت متأثر بالانفعال إنه يستوعب أن ضرورات محافظته على شرفه وعلى مصلحة بلاده تقتضى أن يستدعى النحاس فورا. وعلى هذا الأساس وافقت.
وبعد نصف ساعة (من مغادرة السفير قصر عابدين وعودته إلى مكتبه بالسفارة البريطانية) وصل النحاس إلى مقر السفارة وقال لى- والكلام منقول من التقرير- إنه قادم من مقابلة الملك الذى استقبله مع عدد آخر من الزعماء السياسيين وكلفه أمامهم جميعا بتشكيل الوزارة على الفور وكما يريد. كما كلفه بأن يجىء على الفور لإبلاغى بأن كل شىء قد تم كما طلبت وأن الملك تصرف حسب ما وعدنى وبسرعة.
6- ولابد أن أقول- والكلام مازال للسفير إلى وزير خارجيته- إننى استمتعت لأبعد مدى بوقائع هذه الليلة، ولقد راودنى الإغراء فى بعض اللحظات بأن أصر على تنازل الملك فاروق ولكنى راجعت نفسى لأن مقتضيات الحذر- أقول ذلك مترددا- جعلتنى أترك له الفرصة لاستدعاء النحاس. ولم يكن فى وسعى إرغامه على التنازل عن العرش لأنه تأخر ثلاث ساعات فى استدعاء النحاس وفق ما طلبت فى إنذارى.
انتهى ما نقلته عن التقرير. وفى يوم 5 فبراير- اليوم التالى مباشرة- تلقى السفير برقية من أنتونى إيدن، وزير الخارجية، تقول: أهنئك بحرارة. النتائج تشهد لك بالحزم وتؤكد ثقتنا فيك: أنتونى...