هل تتذكرون قصيدة الشاعر العراقي «مظفر النواب» عن القدس، كنا دوما نتغنى بأشعاره وبجرأته المعهودة وانتقاده اللاذع للحكام، ذلك الشاعر «فارس الكلمة» الذي امتطى صهوة جواد حواسه الوطنية، واتقن دروب خطواته، فانطلقت سهام أشعاره المحمومة ضاربة عروش الحكام , فاضحة سكونهم وسكوتهم على اغتصاب جزء أصيل من جسد الأمة العربية هي «القدس», ولعل هذا المقطع من قصيدته الذي استشرف فيها مبكرا في سبعينيات القرن الماضى , ما يحدث الآن من انتهاكات بحق القدس والمسجد الأقصى توحى بفراسة تنبؤاته وما سيؤول إليه حالها , الذي طالما تباكينا ودخلنا مناقصات المزاد عليها , دون أن يرسو مزاد واحد ليصب في صالحنا , حينها صرخ مظفر النواب بأعلى صوته يرثى فيه حال العرب ..
القدس عروس عروبتكم |
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها ؟؟ |
ووقفتم تستمعون وراء الباب لصرخات بكارتها |
وسحبتم كل خناجركم |
وتنافختم شرفا |
وصرختم فيها أن تسكت صونا للعرض |
فما أشرفكم |
أولاد القحبة هل تسكت مغتصبة ؟ |
الآن تتعالى صرخات القدس من جديد، ويتصاعد الضجيج مدويا فوق أقصاها الذي ينتهكه الاحتلال الاسرائيلى مع قطعان مستوطنيه، غازيا تلك البقعة المقدسة من كوكب الأرض كعنوان يرمز إلى التاريخ والحق والدين والهوية في غفلة من حاكميها , فهم مشغولون بمصائر عروشهم , ودوامات اهتزازها عليهم بعد ما خلفته ثورات الربيع من بركان يشتعل تحت أقدامهم , فغدا ربيعهم خريف وتاهت حساباتهم وسط انشغالهم بما يدور من صراعات طائفية وعقائدية وسياسية , عصفت بالبلاد العربية فاصبحت غير قادرة على الاستقرار .
ثمة تحد خطير ينتظر المدينة المقدسة والمسجد الأقصى في ظل الظروف الراهنة، فلم يعد الاستيطان وتهويد المدينة صاحب الأولوية لدى دولة الاحتلال الاسرائيلى، فهى تختار الوقت المناسب والظرف المناسب لحسم هذه المعركة التاريخية والاستراتيجية , وهل هناك من وقت أكثر ملائمة لتنقض اسرائيل على القدس في غفلة من العرب؟ هناك انقسام وضعف يعصف بالفلسطينيين وصراع داخلى فتت وحدتهم , وهذا يوفر للعرب المنشغلين بشئونهم الداخلية المتردية وأوضاعهم غير المستقرة المبرر للتنصل من مسؤولياتهم تجاه المدينة التي لا تمثل المسلمين فقط بل والمسيحين أيضا لأنها مهد الديانات .
هناك الكثير من أهلها وشبابها المرابط لايزال صامدا في وجه الريح العاتية التي لا يتوانى الاحتلال من افتعالها، ورغم قلة الامكانيات وقلة الحيلة وغياب الدعم غير أنهم يدافعون بأجسادهم الهزيلة وامكانياتهم المحدودة وكل ما اوتوا به من قوة عن مدينتهم المنتهكة، اسرائيل ارادت الانقضاض المباشر على القلب «المسجد الأقصى» في غفلة من العرب وانشغالهم بهموهم لتستولى عليه وتحسم معركتها , فإن سقط في يديها سقطت القدس إلى الأبد وحسمت المعركة لصالحها , وانتهى حلم الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967 التي أقرت بها الولايات المتحدة والأمم المتحدة .
كان الهدف المعلن للسياسة الإسرائيلية تجاه المسجد الأقصى، هو أن تفرض عليه وفيه تقاسماً زمنياً ومكانياً على غرار ما فرضته على الحرم الإبراهيمي في الخليل، ولكن وطالما أن الظروف مواتيةً فإنها تجاوزت ذلك إلى الإطاحة بالمسجد وحرمه، واقامة الهيكل الثالث المزعوم محله.
لذلك فإن اسرائيل تواصل العمل والحفريات تحت المسجد الأقصى، وتواصل الهجمات والاقتحامات للمسجد فوق الأرض، وبشكل يومي بين قطعان المتطرفين، والمستوطنين والأجهزة الأمنية والشرطية والعسكرية الرسمية.
لعل أكثر ما يعبر عن فكر الاحتلال الصهيونى هو ما تناوله «يوعز هندل»كاتب اسرائيلى«حينما قال :» لقد تركت اسرائيل المنطقة كأرض سائبة، والحرم كما هو معروف «برميل بارود»، «منطقة حساسة»، كل هذا يوجد في قائمة خطايا حكومة اسرائيل، ومداولات الحكومة في الغرف المغلقة كما هو معروف ليست إلغاء للمظالم كما يعتقد البعض , ربما أحد ما ينتبه إلى أنه منذ سنوات طويلة تسمح دولة اسرائيل بهدم آثار الحرم «.
إذن اسرائيل ومنذ سنوات تخطط لهدم المسجد الاقصى وإقامة الهيكل الثالث بحسب زعمها مكانه، تسلط المستوطنيين وغلاة المتطرفين من اليمينيين اليهود، تخرب في أساسات المسجد ومحيطه بدعوى الحفريات والبحث عن الهيكل , كل ذلك تمارسه منذ سنوات طويلة على مرأى ومسمع من العالم كله , وردود الفعل العربية مجرد هبات استنكارية واحتجاجية شاحبة غير مؤثرة مفرغة من أي محتوى ترسلها إلى دول العالم بين الحين والآخر سرعان ما تختفى , فما بالنا والحال كذلك من تشرذم عربى وصراع طائفى غير مسبوق ضرب جسد الأمة العربية منذ نكبات الربيع المزعومة السنة تهاجم الشيعة والشيعة لن تحارب بالوكالة عوضا عن السنة , والتمزق العربى بلغ مداه فالارهاب يضرب المنطقة ويحاصرها , فأى فرصة ستكون مواتية لاسرائيل أفضل من ذلك , خاصة وأن الانقسام بين الفلسطينيين انفسهم يحول دون التقدم متر واحد في تجاه انتفاضة ثالثة كانت بوادرها ظاهرة للجميع , وطالما حذرت منها المخابرات الاسرائيلية وتحسبت لها , غير أن الوضع العام الفلسطينى والعربى لا يشى باستنهاضها من غفوتها , وقد أصاب الجسد العربى كل هذا العطب الذي لا أمل ولا رجاء في إصلاحه ليصدق قول مظفر النواب بأن القدس باتت مستباحة ومغتصبة !؟