فى عام 2000، وفى مناسبة قرب مرور 125 عاماً على صدور صحيفة الأهرام، انشغلت بعمل أعطيته اسم «سجل الأهرام فى 125 سنة»، يتضمن صور الصفحات الأولى لأعداد الأهرام التى تضمنت أهم الأخبار التى شهدتها مصر خلال هذه السنوات، وباعتبار أن الأهرام كان الشاهد الحاضر الذى سجل فى وقتها هذه الأحداث. (لأسباب لا داعى لذكرها تأخر إصدار السجل إلى أن صدر فى مناسبة مرور 130 سنة على الأهرام).
وهكذا فإننى بسبب هذا السجل وجدت نفسى لعدة شهور غارقا فى مراجعة أعداد الأهرام القديمة وانتقاء الأعداد التى تسجل أهم الأحداث وتصويرها، وبعد ذلك انتقاء الأكثر أهمية. وبالطبع كانت أول صفحة فى السجل صورة العدد الأول للأهرام، الصادر يوم السبت 5 أغسطس 1876، وبعدها أهرام يوم الخميس 3 يوليو 1899، الذى سجل فيه الأهرام تولى الخديو توفيق حكم مصر خلفاً للخديو إسماعيل، والصفحة الثالثة أهرام الجمعة 8 يناير 1892، الذى حمل عنوان «سبحان الحى الباقى» فى إشارة إلى وفاة الخديو توفيق. وهكذا من حدث إلى حدث، مما جعل السجل (168 صفحة) رحلة تاريخية يغوص الباحث فيها، ليس فقط فى قراءة الخبر، وإنما أيضا- لمن يريد- دراسة تطور كتابة الخبر والعناوين والإخراج فى الصحافة المصرية.
وقد كنت متلهفاً خلال البحث عن أعداد الأهرام التى صدرت فى فبراير 1942 لقراءة تفاصيل ما حدث يوم 4 فبراير 1942، الذى تم وصفه بأنه من الأيام حالكة السواد فى تاريخ مصر وفى تاريخ إنجلترا فى مصر، كأيام دنشواى، وضرب الإسكندرية، وحصار وقصف مبنى شرطة الإسماعيلية يوم 25 يناير 1952. وكانت المفاجأة أننى لم أعثر فى صفحات الأهرام طوال هذه السنة- وبعد ذلك فى صفحات أى صحيفة أخرى صدرت خلال هذه الفترة- على كلمة واحدة تشير إلى الحدث التاريخى الكبير الذى شهد وصول السفير البريطانى «مايلز لامبسون» فى التاسعة مساء ذلك اليوم إلى قصر عابدين، بعد أن سبقته الدبابات الإنجليزية التى أحاطت بالقصر، وقد صعد السفير البريطانى دون استئذان إلى مكتب الملك فاروق ودخله فى عملية تشبه الاقتحام ومعه الجنرال ستون، قائد القوات البريطانية فى مصر، بسلاحه، مقدماً إلى فاروق ورقة طلب إليه توقيعها تفيد بتنازله عن العرش لعدم استجابته للإنذار الذى سلمه السفير ظهر ذلك اليوم إلى أحمد حسنين، رئيس ديوان الملك، ونصه: إذا لم أعلم قبل السادسة مساء أن النحاس باشا قد دعا لتأليف وزارة فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعة ما حدث. وكان «تبعة ما حدث»، كما أوضح السفير البريطانى، تنازل فاروق عن العرش، وقد تم فى اجتماع عقده السفير فى السفارة قبل أن يأتى للحصول على توقيع الملك- وكما كتب السفير فى مذكراته التى نشرت فيما بعد- نقل فاروق إلى إحدى سفن الأسطول البريطانى الموجودة فى الإسكندرية وإرساله إلى منفى فى كندا «لإعطائه فرصة قطع الوقت بالتزلج على الجليد، رياضته المفضلة»، أما بالنسبة لمن يخلف فاروق فقد كان جاهزا مستعدا لتلبية أى أمر من الإنجليز، وهو الأمير محمد على، ابن الخديو توفيق، ابن عم فاروق، الذى قام بدور ولى العهد للسلطان أحمد فؤاد قبل أن ينجب فاروق، وبعد ذلك ولى عهد فاروق حتى أنجب فاروق من ناريمان أحمد فؤاد الثانى.
■ ■ ■
كان فاروق، وهو من مواليد 11 فبراير 1920، فى انتظار أسبوع واحد ليحتفل بعيد ميلاده الـ22، وقد أخذته عزة النفس وهو ينظر إلى السفير الذى بدا أمامه كوحش كاسر، فأمسك بالقلم موشكاً أن يوقع التنازل ويلقى الورقة فى وجه الوحش يهزمه، لولا أن لحقه رئيس ديوانه أحمد حسنين، الذى كان واقفاً إلى جواره وقال له هامساً: إوعى تمضى يا مولانا.. مش همه عاوزين النحاس.. ياخدوه!
وحسب رواية كتبها الدكتور محمد حسين هيكل باشا، رئيس حزب الأحرار الدستوريين، فإن فاروق تمهل لحظات قبل أن يلقى القلم الذى أمسك به وقال للسفير: إننى مستعد لتوقيع هذه الوثيقة التى توافقنى أنها وثيقة خطيرة تاريخية ولا يجوز أن تكتب على ورق عادى كهذا الورق المكتوبة عليه، ولهذا يحسن أن تكتب على ورق لائق لأن أضع توقيعى عليه. وللحظة ارتج السفير للمنطق الهادئ الذى تكلم به فاروق، فانتهز الملك الفرصة وسأل السفير: هل لى أن أسألك عن السبب الذى دعا لكتابة هذه الورقة؟.. لقد كلفت النحاس باشا، منذ أمس، بأن يؤلف وزارة قومية اقتناعاً منى بأن تأليف وزارة قومية فى الظرف الحاضر يكفل سلامة مصر أكثر من تأليف وزارة قومية بدلاً من تأليفه وزارة حزبية، وكنت أحسب هذا يحقق مصلحة إنجلترا، أما وأنكم أصررتم على أن يؤلف وزارة حزبية فسأكلفه كطلبكم تأليف هذه الوزارة.
ولم يكن أمام السفير البريطانى سوى أن ينسحب ومعه قائد القوات البريطانية وإصدار الأوامر إلى القوات التى تحاصر القصر العودة من حيث جاءت.. لكن شيئاً من ذلك لم تشر إليه الصحف ولعدة سنوات، فقد كانت البلاد فى حالة أحكام عرفية والصحف تخضع للرقابة وكانت الأوامر منع نشر كلمة واحدة عما جرى فى ذلك اليوم، رغم أن الناس شاهدت الدبابات البريطانية وهى فى طريقها إلى عابدين وعائدة منه!..