-1-
أستأذن قليلاً من الهم والغم، فأنا على موعد مع فرح، الفرح من الفرحة، والفرحة تضرب الحزن فى مقتل، وقديماً قالوا «دموع الفرح تغسل النفوس»، وقال حكيم «ما أبغض الهم إنه كالسوس بطىء السريان يقرقض البهجة»، وإذا دخلت البهجة من الباب ترحل الهموم من الشباك، وتتآمر كل الخيوط والألوان لترسم لوحة السعادة فوق الصدور. وفى الحس الشعبى «السعيد من كان هاشاً باشاً». ولأن النكد لبلابى الانتشار، فلابد من قص فروعه قبل أن تزحف على حديقة الروح. والفرحة أنواع، فرحة عامة كانقشاع الإخوان من الساحات والدروب، أيضاً افتتاح قناة سويس جديدة، وفرحة خاصة، كترقية أو إنجاز أو نوم دون أرق، وهناك فرحة أخرى تشارك أصحابها الفرح، كعقد خطبة أو زفاف.
وقد خرجت من «شرنقة الأشجان» إلى شارع الفرح، حين لبيت دعوة لحضور حفل زفاف، الأسماء لا تهم، والذى أكتبه الآن هو توصيف حالة تبعث السرور فى الفؤاد. جاءتنى الدعوة على الموبايل ومعها - على الموبايل - خريطة تفصيلية، ولما كنت من جيل الدعوات الورقية الملونة المثبت فيها حبة لولى وبدون خرائط لأنها فى فندق معروف للعامة والخاصة، وأهم ما فى الدعوة الورقية عبارة «نتمنى للأطفال نوماً هادئاً» ومع ذلك تأتى الأمهات وفى صحبتهن أورطة أطفال.
الآن، الأفراح عصرية، يبدأ الفرح فى السابعة وكنت فى بيتى فى العاشرة، لا رقاصة تنهشها العيون، ولا مغن يلهف ثلاثين ألف دولار على وصلتين، وفى جيلى كان المنولوجيست أحمد غانم «نمرة» رئيسية.
وصلنا إلى الموقع حيث تلألأت الأضواء، واختلط العطر بنسيم العصارى، ومرقت السيارات إلى الداخل بعد رحلة بحث مضنية، استقبلتنا ابتسامات العذارى، نحن الآن داخل الكومبوند، هو ليس بعيداً عن القاهرة الجديدة ويحتاج لمراجعة خريطة الموبايل والأسهم العديدة، أحياناً نسأل المارة، بعد السلام عليكم، عن بعض المعالم الدالة على قرب الوصول، وفى جيلى كانت أهم المعالم أمام كومبانية النور أو خلف قسم البوليس أو أمام صيدلية الشفا لزق. فى هذا الزمن أنت آمن طالما داخل الكومبوند. واحدة من العذارى أرشدتنى لأكتب كلمة فى أتوجراف أعد خصيصاً لهذه المناسبة، وقد اعتدت أن أكتب رأياً فى جاليرى يحتفى بفنان، لكن الجديد هو «أوتوجراف فرح»! وقد كتبت «الطريق صعب لأن الكومبوند يبدو كقرية فوق كتف نهر، أو مزرعة فى حضن صحراء، وتهون أى مشقة فى سبيل قطرات من الفرح.. خالية من الحسابات الحديثة للانتخابات أو الكتالوج الجديد للبشر فى المواقع»، لاحظت أن للكومبوند أبوابا حديدية كما أبواب مجلس الشعب، ولها حراس مهذبو النظرات، عيونهم ترحب بالزوار، أحاطتنى الزهور المجدولة كما شعر فاتنة فى العشرين، لاحظت أن الإضاءة أحد أبطال اللوكيشن، وهى كلمة سمعتها لأول مرة من المخرج حسين كمال، ودلالتها موقع التصوير الخارجى. الإضاءة نقلت المكان من الواقع إلى الأحلام بلون الرومانسية.
-2-
فى وسط الحديقة أمام فيلا أنيقة جو أسطورى كأنه خيمة كبيرة تتدلى منها «نجفة»، تعرفت عليها بسهولة دون سؤال لأنها من مفردات الزمن الجميل، الجديد أنها فى «جنينة» وليست فى صالون أثاث من عهد لويس التاسع، وليست نجفة واحدة بل سرب من النجف يخطف البصر، حين جلست طافت عيناى بالمكان كله، فلم أتعود على التحديق فى الوجوه، لكن والدة العريس جاءت ترحب وفى الترحيب نبرة شجن، لأن «امرأة أخرى جاءت وأخذت منها ابنها»، هكذا الأمهات تربى البنين فإذا استوى العود جاءت أخرى وخطفته، ولا يمكن تحليل دموع الأم، هل هى دموع فرح أم دموع شجن، لا أحد قادر على التحليل حتى الباحث الجاد فى أحوال المصريين «جلال أمين». وقد اعتدت أن أرى فى الأفراح وجوه مصورين للصحف، فهم «راكور» فى أى مناسبة أى دائمو الظهور وقد لاحظت اختفاء مصورى الصحف ومصورى الشاشات، وربما خلا المكان من إعلاميين باستثناء واحد أو اثنين، لعل العروسين كانا يريدان الخصوصية المطلقة، وهو مطلب عادل وإنسانى أن تحتفل بمناسبة خاصة دون عيون الفضوليين والمتطفلين ودون تسريب صور عائلية إلى فيس بوك أو انستجرام. البنات كالفراشات سابحات فى الضوء رشيقات الحركة وبعضهن يحملن «طرحة» العروس حتى لا تعوقها عن الحركة إذا نزلت ترحب بالمدعوين، ولأنى لستُ متخصصاً فى الموضة مثل «نهى عبدالعزيز» المذيعة الدانتيلا فى قناة Ten، أعجز عن وصف الفستان، ولا أعرف خامته أو من مصممه على هذا الطراز الباهر. على الموائد أطباق شهية تفتح النفس وضعت كأنها للعرض لا للأكل، وكل مائدة عليها أطباق للاستخدام الآدمى لا للرسم عليها، هكذا الفرح العصرى، لا محمر ولا مشمر ولا ديك سايح فى دمه ولا فخذة نايمة فى صحن أرز على طريقة الكرم الخليجى.
لا أدرى لماذا طافت فى رأسى صورة النجمة جوليا روبرتس، وربما طبقاً لعلم النفس مرقت من أمامى فراشة آدمية تحمل نفس ملامح عبقرية هوليوود ذات الجمال الخاص جداً، شربت كوباً من الفراولة بطعم ولون شفاه من قدمتها لى، ولم أر موسيقيين يحملون الآلات ويتأهبون قبل مجىء المطرب القادم من فرح آخر، وربما من فرح ثان وثالث، فمعظم أفراح هذا الزمان عصرية خالية من الفشخرة وربما كانت «عملية» بمعنى أن فلوس المطرب والفرقة والرقاصة تذهب لبنود أخرى، لا عن بخل إنما عن تدبير وأغلب الظن أنه تفكير العروسين.
الفرح مناسبة اجتماعية للتعارف والتصوير السيلفى وقد قمت مرات لتحية أصدقاء قدامى وبعضهم أصدقاء مقاعد دراسة، وكانت والدة العريس قد انهمكت مع صديقة عمرها فى حوارات تحجب الدموع فى مآقيها ونصف أمهات العالم يبكين فرحاً ليلة فرح الأولاد بالذات. مازال الأصدقاء يسجلون أرقام التليفونات الجديدة على الموبايلات بعد انسحاب الكروت الورقية من اللعبة. العروسان بعد مشهد التسليم والتسلم يرقصان معاً ويتهامسان، ومنذ قليل وقف العريس فى انتظار أن تنفرج الستارة وتخرج العروس الجميلة متأبطة ذراع والدها، وفى منتصف الطريق الأبيض يتسلم عروسه ويتأبط ذراعها ويرقصان. زواج عصرى خال من حمرة الخجل والكسوف، لا أحد يسمع الهمس الملكى! فى جيلى كان العروسان يجلسان فى الكوشة ويأتى المهنئون ويلتقطون الصور التذكارية، وعبارة عقبال البكارى تذيل التهنئة مع القبلات والأحضان الدافئة.
-3-
رأيت العريس يقبّل رأس سيدة وقورة لم يعبث الزمن بملامحها، وفهمت أنها «جدة» العريس، ويبدو أن دمعة فرح غافلتها وسقطت على خدها وهى تحتضن ابن ابنتها. إن الجد أو الجدة اختراع إنسانى خلقه الله وأوجده لنمو شجرة العيلة وفروعها وأغصانها، وقد اهتز بدنى فرحاً وأنا أرى العريس الشاب بين ذراعى جدته، وكل ما أحلم به - إن أمد الله فى عمرى - أن يأتينى حفيدى بين ذراعى ليلة زفافه، إن جيل هذا الزمن قد يرفض ديكتاتورية الآباء وديمقراطية الأمهات ذات الأنياب «على حد قول السادات» ولكنه يرتمى فى حنان الجدة ويتمرغ.
كان فى اللوكيشن شخصيات قيمة وقامة، ولم تؤرقهم كاميرات خفية ولا متربصة ولا قرصان الفيس بوك، كانوا فيما أتصور آمنين على أنفسهم من دس الأنوف، والتقيت بصداقات معمرة نتبادل ودا بلا أجر، وضحكات من القلب بلا جمارك، وكنت قد أغلقت الموبايل، وأنا لست من هواة التصوير ولم ألتقط صورة نادرة، وهى زفة العروسة، تلك الزفة المصرية بالطبول والدفوف والشمعدانات المضيئة فوق رؤوس فارسات الزفة بزى واحد، قطعة غالية من الزمن الجميل، خصوصاً الشمعدانات المضيئة، إنها تبدو كقناديل تحرس موكب العروس.
«الفرح مرح» هكذا يقول مثل فرنسى، ولهذا زرعت المناسبة المرح فى كل ركن، وتعالت الضحكات تطلب إسقاط الحزن ورحيل النكد.
صديق يمنى قدم لى نفسه يعيش فى باريس، وأخذنا نتحدث عن أنواع «الجبنة» الفرنسية، وكيف أنها 47 صنفاً وحاولت أن أجاريه فى المناقشة فقلت له «أظن أن أنواع الجبنة السويسرية أكبر» ولكنه اعترض بحماس. هذا الحوار أخذ مساحة من الوقت ولم نتكلم دقيقة واحدة عن جروح اليمن السياسية، فهل أخذت عقولنا إجازة؟ ربما. فتحت حواراً آخر مع سيدة فاضلة تطلب منى العودة لبرنامج حديث المدينة، فقلت لها: هل أكرر نفسى؟! المهم كان النقاش فى الهواء الطلق دون تشنج أو صياح أو خناق، بل يميل إلى السلاسة لأن الجو العام يحرض على هذه النعومة وأدب الحوار والصوت الهامس الذى ما عاد!
-4-
لحظة الفرح قد تغفر لحظات قادمة «تخاصم الفرح»! بالى مرتاح حتى إشعار آخر! ليس فى «حدائق الخيال» أى عطب! تطاردنى من العقل الباطن أفكار مخبوءة، وأقاوم الغمام السابح فى سمائى! وأخاف أن تزرعنى فى «أرض إحباط»، ولا أحد يملك أن يقرأ «كف الوجه» إن كان له خطوط! بعد قليل سأغادر الفرح، وسأواجه زهورا صناعية وابتسامات شمعية ومعارك انتخابية وصرخات كروية ومجادلات صفرية ومآسى سورية واحتجاجات مدنية، وطبطبات حكومية واعتبارات قومية وحيثيات ماريوتية، وتسللات سلفية وإشاعات فيسبوكية وقبضات أمنية ورقابة إدارية وشيكابالا زملكاوية وحربا معلوماتية. انتباه!