الانتخابات والتيه العظيم

محمود أباظة الأحد 06-09-2015 21:46

الانتخابات العامة ليست لعبة إلكترونية لملء أوقات الفراغ. الانتخابات العامة آلية اهتدت إليها البشرية بعد عناء لتمكين المحكوم من اختيار حاكمه وتقويمه وتغييره عند الاقتضاء وفقاً لما يعرف بالتداول السلمى للسلطة. هذا هو جوهر الانتخابات العامة وهو الأساس الذى يقوم عليه النظام الديمقراطى. الانتخابات العامة عقد محله الحكم. فإما أن يكون الناخب راضياً عن الحكومة القائمة فيصوِّت لها، وإما أن يكون غير راضٍ فيعطى صوته لمن يعارضها.

الانتخابات العامة معركة بين طرفين: الحكومة وأنصارها من ناحية، والمعارضة وأنصارها من ناحية أخرى. ويسعى كل طرف إلى الحصول على تأييد جموع الناخبين، فيسمع الناخب من الطرفين حتى ينتهى إلى رأى فيذهب إلى الصندوق على بينة من أمره. فإن أعطى صوته لهذا الطرف أو ذاك، يكون قد مارس حقه الدستورى فعلياً واختار من يحكمه، وتكون الانتخابات العامة قد أدت دورها كآلية ديمقراطية. ولا يشك أحد فى أن غياب المعارضة عن ساحة المعركة يفرغ العملية الانتخابية من معناها لأنه يصادر إمكانية الاختيار. وبنفس المنطق فإن غياب الحكومة عن الساحة بحجة عدم التأثير على إرادة الناخبين يهدم هذه الثنائية المتمثلة فى المواجهة بين المولاة والمعارضة على مسمع ومشهد من الشعب بغية الاحتفاظ بالحكم أو الحصول عليه بإرادة الأغلبية. هذه المواجهة هى بوصلة الانتخابات العامة فى النظم الديمقراطية، بغيرها تصبح العملية عبثية بلا هدف، يختلط على ساحتها الحابل بالنابل، ويستعصى على جموع الناخبين تبين طريقها، فتمعن فى تيه عظيم وتخوض فى مستنقع المفاسد والمساومات والمجاملات التى تفسد الإرادة وتسوق الناخب إلى صندوق الانتخاب معصوب العينين، مما يؤدى إلى تعلق مصير الوطن بحبال الصدفة، وهى أقصر الطرق إلى الفوضى. مجمل القول إن غياب الحكومة عن المعركة كغياب المعارضة، فهما وجهان لعملة واحدة بغيرهما تفقد الانتخابات العامة معناها، وتصبح مظهراً بلا جوهر.

وعلينا أن نكف عن خداع أنفسنا وخداع الناس مدعين أن الحكومة الحالية حكومة تسيير أعمال ليس لها وجود سياسى، لأن هذه الحكومة تنفذ سياسة الرئيس المنتخب منذ أكثر من عام، فهى إذن تستمد وجودها السياسى منه. كما أن سياسة الرئيس التى تنفذها تلك الحكومة منذ عام هى محل الانتخابات القادمة، فإما أن تستمر أو تتغير، لأن نظامنا شبه الرئاسى يجعل رسم سياسة الدولة وتنفيذها قسمة بين رئيس منتخب وحكومة تمثل أغلبية البرلمان المنتخب. فإما أن تكون أغلبية البرلمان القادم مؤيدة لسياسة الرئيس وحكومته التى تنفذها منذ أكثر من عام، وإما أن تكون معارضة لها مما يستوجب تغييرها أو لجوء الرئيس إلى الشعب فى استفتاء عام لحل المجلس الجديد. وفى هذه الحالة نكون بصدد أزمة سياسية من العيار الثقيل علينا أن نسعى لتفاديها بصفة عامة، وفى ظروفنا الحالية بصفة أخص.

وإذا كانت سياسة الرئيس التى تنفذها الحكومة هى محل هذه الانتخابات البرلمانية، فمن يدافع عنها فى المعركة إن لم تفعل الحكومة؟ آخذين فى الاعتبار أن هذا ليس دور الرئيس الذى خاض انتخابات الرئاسة وفاز بها، وأصبح رئيساً لكل المصريين بالإضافة إلى كونه رئيساً للسلطة التنفيذية. وهذا الازدواج الوظيفى يفرض عليه أن يحدد التوجهات السياسية العامة دون أن يخوض معركة الانتخابات البرلمانية التى تخصُّ الحكومة أساساً باعتبار أن استمرارها فى تنفيذ سياسة الرئيس يتوقف على وجود أغلبية برلمانية تؤيد هذه السياسة.

ومن ناحية أخرى، أليس من حق الناخب المدعو للإدلاء بصوته فى الانتخابات البرلمانية أن يعرف إن كان المرشح الذى يطلب صوته مؤيداً لسياسة الرئيس المنتخب أو معارضاً لها، فيعرف من ثم إن كان يشاركه رأيه أم يخالفه؟ أليس هذا هو الحد الأدنى لعقلانية العملية الانتخابية؟ وإلا فبناء على أى معيار يختار؟ إن غاب هذا المعيار فلن يبقى له إلا معيار المصلحة الشخصية بصرف النظر عن المصلحة العامة، وهذا هو الفساد بل الإفساد بعينه.

المشكلة ليست فى ضعف الأحزاب السياسية، وهى ضعيفة بالفعل. والمشكلة ليست فى كثرة هذه الأحزاب، وهى كثيرة بالفعل. المشكلة فى غياب الحكومة عن هذه المعركة غياباً يهدم ثنائية المواجهة بين الحكومة والمعارضة التى هى بوصلة أى انتخابات ديمقراطية، بغيرها تصبح الانتخابات العامة بلا معنى. علاج المشكلة فى يد أولى الامر. فعندما تنزل الحكومة إلى الساحة مدافعة عن سياسة الرئيس المنتخب التى تنفذها منذ عام، شارحة المراحل القادمة من هذه السياسة، حاشدة أنصارها، منبهة إلى التزامها بحماية الدولة الوطنية المدنية الحديثة وبخطتها لدفع عجلة التنمية العادلة المستدامة: عندئذ تتضح الصورة، وتنكشف الغمة، وتظهر المعارضة التى لم تتلوث يدها بدماء أبناء الوطن، ولم تخرج على الدولة رافعة السلاح، وتغرب عن سمائنا طيور الظلام، وتهرع الأفاعى إلى جحورها، ويسترد الشعب حقه فى الاختيار على بينة من أمره، فتعبر سفينة الوطن إلى بر الأمان. ما زالت الفرصة متاحة أمام الجميع، فلنسعَ جميعاً إلى اغتنامها. والله ولى التوفيق.