الساقط يرفع إيده

عبد الناصر سلامة الأحد 06-09-2015 21:45

توارثنا عن الراحل عبدالحليم حافظ نداءه الشهير: الناجح يرفع إيده، فى ربط تاريخى واجتماعى لهذه الأغنية الجماهيرية (وحياة قلبى وأفراحه) مع نتيجة الثانوية العامة بصفة خاصة، حينما كانت بحق ثانوية عامة، وقت أن كان الحصول على مجموع ٨٠٪ من الدرجات ضرباً من الخيال، فكان من حق الناجح رفع يده، بل وكلتا يديه، مادام سوف يستطيع الالتحاق بالجامعة التى يريدها، أو بالكلية التى تتناسب مع رغباته وميوله، فكان هذا المجموع يتيح الالتحاق بأى مكان فى بر مصر، بل ويقطن الطالب المدينة الجامعية مجانا، ويحصل على مكافأة شهرية، إلى غير ذلك من أمور التكريم، التى تبدأ من الجهات الرسمية فى القرية أو الحى، وتتواصل وسط احتفالات متنوعة، إلى أن تصل إلى السيد المحافظ، أو معالى وزير التعليم.

قد يحصل الطالب الآن على مجموع ٩٨٪ ولا يستطيع الالتحاق بكلية الطب مثلاً التى كانت أمنية حياته وليست مجرد رغبة فقط، بالتأكيد لن نستطيع توجيه اللوم إليه بالتقصير أبدا، قد يستطيع أيضا الالتحاق بكلية الطب فى إقليم ما بالصعيد، أو بالدلتا، إلا أنه لم يستطع تحقيق حلمه بالالتحاق بنفس الكلية فى العاصمة، أو الإسكندرية، أو حتى مدينة المنصورة، وذلك لأن نظام التنسيق يرى ذلك، أو أن هذا هو نظام الدولة.

الكارثة الحقيقية هى حينما يلتحق بهذه الكليات أقرانه من أبناء فئات محددة من المسؤولين بحجج واهية، أو تحت مسمى اعتبارات قومية، ليست هذه هى المرة الأولى التى يتم فيها إهدار حق هذا الطالب أو ذاك، فمنذ تم تفضيل آخر عليه بدرجات أقل، فى الالتحاق بهذه الكليات بالجامعات الخاصة، من خلال المال هذه المرة، كان عليه أن يدرك أن المتوالية قادمة، هى متوالية من هدر الحقوق، والتمييز، والمحاباة، وعدم المساواة، كان على الطالب أن يفطن إليها، إن هو اهتم بشؤون بلاده من أخبار يومية تتناقلها، أو بعضها، وسائل الإعلام، سوف يحمد الله كثيرا أن أوراق الإجابة الخاصة به لم يتم تبديلها، ويصبح من ذوى الأصفار، سوف يفاجأ بمثل هذه السلوكيات فى الجامعة بعد ذلك، خاصة مع أبناء الأساتذة هذه المرة، سوف يفاجأ بعد التخرج وحين البحث عن وظيفة بأن أمور الخيار والفاقوس تصبح عينى عينك، سوف يرى ذلك فى الترقيات الوظيفية، باختصار: فى كل أمور حياته تقريبا.

من الآخر، لم يعد هناك أى مجال للناجح كى يمكن أن يرفع يده التى أشار إليها عبدالحليم حافظ، لا فى مراحل الدراسة الأولى، ولا المراحل المتقدمة، ولا حتى فى الحياة الوظيفية فيما بعد، حكومية كانت أو غير حكومية، على العكس من ذلك تماما، نرى الساقط رافعا يده فى كل مكان وزمان، ربما رفعها ذات يوم على قفا ذلك الناجح، هو رفعها مجازاً بالفعل فى كل مراحل حياته، لكن قد تصل به الأوضاع إلى رفعها واقعا، بعد أن يكون قد استخدمه لديه، والنماذج فى ذلك لا حصر لها، أو حتى داخل أحد أقسام الشرطة التى أصبح ذلك الساقط أحد قياداتها.

بملاحظة بسيطة لحياتنا اليومية، قد نرى الوطن فى مجمله أصبح مرتعا للساقطين فى كل مكان، ولا عزاء للناجحين، سوف نكتشف أن المجال أرحب أمام الأغبياء أكثر منه للأذكياء، للعصابات من أصحاب الأيديولوجيات العفنة ولا مجال للشرفاء، لأصحاب المال ولا مكان للفقراء، ببحث بسيط سوف نجدهم يتقلدون الآن المواقع الأهم، سوف نجد أغلبيتهم قد حصلوا على الثانوية العامة من المجر، أو رومانيا، سوف نجد الشهادة الجامعية من روسيا أو بولندا، تطور الأمر بعد ذلك إلى دكتوراة وهمية من جامعات أكثر وهماً، هذه هى مصر الآن، كيف يمكن أن تصبح قد الدُنيا، دون علاج هذه الأوضاع، بل كيف يمكن أن تحافظ على موقعها كأُم للدنيا، هى فى مجملها أوضاع تؤدى إلى الانهيار السريع، رغم سهولة العلاج وبساطته.

العلاج أيها السادة يكمن فى: لا للفساد، لا للمحسوبية، لا للاستثناءات، العلاج يكمن فى المساواة بين ابن الخفير وابن الوزير، الكفاءة فقط هى المعيار بينهما، قواعد الشفافية والنزاهة لا خلاف عليها بين المجتمعات، ولا بين الأديان، ولا داخل المجتمع الواحد، هى فقط تحتاج إلى إرادة، السلطة الرسمية للبلاد يكون لديها الاستعداد للعمل بما يرضى الله، الغريب فى الأمر أن هناك بيننا من لايزال يعتقد أن هناك ثورة شهدتها البلاد فى ٢٠١١، وهناك من يعتقد أن هناك أخرى فى ٢٠١٣، بل هناك من لايزال يعتقد بالاثنتين معاً، والسؤال هو: ثورة على ماذا إذا كانت هذه الأوضاع فى أقبح صورها الآن؟ ثورة على ماذا إذا كان الفساد فى أبشع صوره الآن؟ ثورة على ماذا إذا كنا لا نرى أى بوادر للإصلاح؟

هذا تحديدا ما يجعلنا نؤكد أن الثورة لم تأت بعد، وهو أيضا ما يجعلنا على يقين بأنها قادمة لا محالة، مادام الناجح أصبح فى طى النسيان، ليس ذلك فقط، بل أصبحنا نبخس حقه، بينما أصبح الساقط يرفع يديه فى كل مكان متبجحا، ولم لا، فقد اكتشف مبكرا أن الظلم أساس الحُكم.