سفرتنا الأخيرة إلى الجنة

أحمد حمدي السبت 05-09-2015 20:58

رياح باردة ضربت العاصمة الفرنسية باريس في ذلك اليوم من أكتوبر الماضي، ترجلنا معًا في شارع الشانزليزيه الشهير نتلفت يمينًا ويسارًا نسر أعيننا بالأجواء الفرنسية الفاتنة من حولنا، كانت عيناه تملؤها فرحة طفل صغير تمنى لعبة فحصل عليها أخيرًا، كان حلمه منذ سنواتنا معًا في كلية الإعلام أن يزور باريس وها هو في قلبها، لكن قلبه هو كان يعشق شيئًا آخر أكثر من عشقه للعاصمة الفرنسية وجمالها، عشق جعله في أكثر لحظاته سعادة في قلب أوروبا، يلتفت إلى قائلًا بلمعة في عيناه تعكس حماسًا شديدًا أعرفه جيدًا: «لو هتعمل تقرير عن فيروز هتقفله بأغنية إيه؟»، التفت إليه، أخي وصديق عمري محمد سماحة، مراسل برنامج «كلام تاني» بقناة دريم، باستغراب غير مصدق إنه في قلب المكان الذي ظل قرابة الـ10 سنوات يحكي لي عن حلم زيارته يرمي كل هذا وراءه ليفكر في العمل، كان يعشق عمله حد الجنون، وكان طموحه يتعدى علو السماوات، قلت له: «يا (سماحة) احنا في الشانزليزيه في إجازة أكيد دماغي مش حاضرة دلوقتي مش عارف يعني»، فرد هو: «بس أنا عارف.. أنا بعت لرشا وقلتلها تقرير فيروز الجي ده محدش هيعمله غيري».

أسبوع مر على رؤياه لمرة أخيرة كانت وداعًا خفيًا لم أدركه في حينه، وداعًا لدنيا لم تعد كما كانت، لابتسامة واراها التراب جوار جثمانه الذي استلقى على يمينه مقبلًا على حياة آخرى لا شك أنها أفضل من حياتنا الدنيا، رحل محمد سماحة، مراسل برنامج «كلام تاني» على قناة «دريم» في حادث أليم، مساء الاثنين الماضي، حين صدمته سيارة مسرعة وهو يقف أعلى الرصيف، نعم أعلى رصيف في بلد لم يعد حتى الوقوف على الرصيف يقيك حوادث الطرق فيها، بلد يحوم شبح الموت فوق كل شبر من أرضها مستوطن فيها مقسمًا أن يرحم شبابها من معاناة أيامهم الصعبة.

اختار الموت، مساء 31 أغسطس، أن تحرم مصر من موهبة كانت لتصعد سماء النجومية في وقت قياسي. كان يعشق مجال الإعلام منذ طفولته، لكني لم أعرفه أنا حينها فقط استمعت إلى رواياته عنها وروايات والديه، لكني عرفته منذ التحقنا معًا بالجامعة، قبل قرابة تسع سنوات، مثالًا للشاب المخلص في عمله، يبحث عن الكمال والجمال والإتقان والتميز، تعلقنا ببعض سريعًا وتلاقت صفاتنا وعقولنا، هي كيمياء خاصة جمعتنا معًا جعلتنا كالتؤام في أعين المحيطين، كنا نؤمن بأننا خُلقنا لنترك بصمة لا لنرحل كما جئنا، آمنا بمواهبنا وكان موهوبًا بشكل لا يصدق، «مينفعش نكون زي حد»، جملة رددها على مسامعي كثيرًا، وآمن بها أكثر، كان مختلفًا بكل المقاييس، كانت موهبته من ذهب تنتظر فقط من يعتني بها.

أمام كشك صغير بشوارع مدينة نصر، جلسنا في سيارته نتحدث دون ذواق كعاداتنا، بلا هدف من الحديث ولا غاية، كان حينها قد شق طريقًا جيدًا في عالم شركات الإعلانات بشطارته وإخلاصه في عمله كعادته، التفت إلى قائلًا: «أنا جايلي عرض في دريم وهسيب الشركة»، كنت سعيدًا بسماع الخبر، فقد كان دائمًا ما يحلم بالعودة لمجاله في التلفزيون، بعد تجربتنا القصيرة معًا في برنامج «مال مصر» بقناة «أون تي في»، في الشهور الأخيرة من عام 2011 والشهور الأولى من عام 2012، قبل تغير خارطة البرامج وإلغائه، ليلتحق بعدها بشركة الإعلانات وأعمل أنا في مجال الصحافة بشكل حر.

واستطرد هو في حديثه متابعًا: «هي الفلوس أقل طبعًا بس ده مجالي أنا عايز أعمل لنفسي اسم في الإعلام هو ده اللي أنا بحبه»، قبل أن يروي لي كيف حاولوا في الشركة إقناعه بكل السبل أن يتراجع عن قراره وأبى أن يترك حلمه الذي عاش من أجله منذ صغره، كنت معجبًا بإصراره، بل كان إصراره يزيدني قوة وإصرارًا في قراراتي التي كان دائمًا ما يشجعني عليها ويؤكد معي عليها، «لا تتخلى عن حلمك وحبك وعشقك للإعلام، احنا اتخلقنا عشان نبقى كدة وهنبقى حاجة»، كلماته رددها على مسامعي، كنا نقوي بعضنا، نأبى أن يسقط الآخر في بئر اليأس حتى في أحلك أيامنا.

رحل وتركني أصارع أمواج الحياة وحدي، أطارد حلمًا لم يعد حلمي أنا بل حلمه هو الذي سأطارده من أجله، قال لي: «يومًا سنصبح نجومًا»، وكنت أثق تمامًا أنه سيكن كذلك، بل كان بالفعل نجمًا رغم فترة عمله القصيرة على شاشة «دريم»، إلا أن تفانيه في عمله وإبداعه المختلف وابتسامته الدائمة البشوشة السمحة حولته لشخصية يحكى ويتحاكى عنها في أروقة القناة واستديوهاتها، ثقة كبيرة حازها من زملائه ومديريه، تحول اسم «سماحة» إلى أيقونة سعادة لا يقترب من مكانتها أحد، إلى علامة مميزة لا تتشابه مع غيرها، فمن غيره حول تقرير عن «أحداث الأسبوع»، لا يحمل في اسمه أي ملامح من الإبداع، إلى فقرة كوميدية أسبوعية ينتظرها الرجال والنساء والأطفال، عشقها وزراء هاتفوه وبسطاء صادقوه.

رحلت يا «سماحة» وفقدت «دريم» أفضل مراسليها، لكن فجيعتي أنا أكبر يا أخي، فبرحيلك فقدت الأخ والصديق والابن والزميل، رحلت فكسرت ظهري ولا ألف عملية جراحية تعيده كما كان، رحلت يا سندي وقوتي، رحلت يا رفيق الدراسة والسفر والعمل، رحلت يا جاري الدائم في السكن وحتى في مقابرنا التي تبعد عن بعضها بضعة أمتار، عزائي يبقى في ابتسامتك وضحكتك التي أتذكرها وأنت تمازحني قائلًا: «هو أنا مش هخلص منك.. حتى في المقابر هنبقى جيران».

نعم يا أخي، لن أتركك حتى في الموت لن أتركك، يومًا سيكتب لي الله أن أرافقك مجددًا في سفرة جديدة، سفرة كنا نتمناها إلى جنة أوروبا نهاية العام، لكن كُتب لنا أن تكون في مكان أفضل كثيرًا، جنة الله، وهل كنا لنجد أجمل منها مكانًا.. أراك في الجنة يا صديقي.