هل يذكر أحد منكم مسرحية بروتولد بريخت التى عُرضت فى القاهرة عام ١٩٦٨ «إنسان ساتشوان الطيب»، والتى وقف فيها السقا الفقير (لعب دوره العظيم فاروق نجيب) مخاطباً الآلهة، أو أياً من كانت لهم السلطة فى تحديد مصائر البشر: هنالك شىء فى عالمكم أيها النيرون «غلط»! كان هناك أمر ما غير عقلانى وغير منطقى، أن تهطل الأمطار بغزارة ساعةَ ممارسة مهنة توزيع المياه على الناس مقابل قروش قليلة سوف يكون الحرمان منها دواماً للفقر أو حكماً بالإعدام. شىء من ذلك جرى فى مصر خلال الأيام الماضية، وقصتها باتت معروفة للكافة، فما حدث للطالبة مريم ملاك مينا عبَّر عن مفارقة منطقية وعقلية، عندما حصلت من اعتادت على الامتياز- أكثر من ٩٠٪- طوال السنوات السابقة من حياتها الدراسية فإذا بها فجأة ومع ظهور نتيجة الثانوية العامة تحصل على صفر كبير، وفى جميع المواد ما عدا اللغة العربية التى حصلت فيها على درجة واحدة ونصف فقط ولا غير. هناك «غلط» ما حدث لم نعرف ما هو على وجه التحديد حتى الآن، وبعد أن كان واقعاً على عاتق «الكنترول» ومن بيدهم تصحيح الأوراق، فإن الأمر وصل إلى وزارة التربية والتعليم، والآن فقد أضيفت له إدارة الطب الشرعى التى كان عليها تقرير ما إذا كانت الأوراق التى حصلت على الصفر هى المكتوبة بيد مريم أم لا، وكان التأكيد تلو التأكيد أن الحال كذلك! لم يعد شرف ومصداقية إدارة واحدة فى الميزان، ولكن تداخلت معها إدارات ووزارات متعددة.
هناك أمر إيجابى للغاية خرجنا به من هذه المسألة، وهو أن الطالبة مريم ملاك مينا وعائلتها الكريمة لم تسكت، فى إشارة إلى أن المصريين لم يعودوا كما كانوا. لا تقبلوا ما اعتبروه ظلماً، ولا سكتوا على ما اعتبروه غير عقلانى وغير منطقى، وكان مسلكهم طوال الوقت قانونياً وملتزماً بأن العدالة فى النهاية سوف تأخذ مجراها. وحتى عندما تدخلت القداسة الكنسية، كما سادت العادة فى سنوات مضت أن تكون الكنيسة هى الحامية للمسيحيين، وجسر الوساطة بينهم وبين السلطات- كان الرد هو الاعتذار المهذب، لأن مريم ملاك مواطنة قبل وبعد كل شىء آخر. ببساطة كان هناك أمر جرى للمصريين «صح» حتى ولو ظهرت فى أمر ربما كان مفعماً بالأخطاء، وربما الخطايا. وهذه وتلك ليست واقعة فى عما إذا كانت الأوراق المعلنة هى ما شمل إجابات الطالبة، أو أن عبثاً أو إهمالاً قد جرى فاختلطت أوراق، أو حتى أن مريم فقدت تركيزها المعهود فى سنوات سابقة بسبب حالة الثانوية العامة فكانت الإجابات على الشكل الذى ظهرت به حتى ولو كان مثل ذلك مستبعداً كما تشير الشواهد والوقائع، ولكن ربما كانت هناك أسباب أكثر عمقاً وأهمية من كل ذلك.
ببساطة، وأياً كانت الطريقة التى سوف تسير فيها الأمور فى قضية مريم، فإننى أتهم نظام الثانوية العامة نفسه بأنه السبب فيما جرى. لاحظ هنا أن أسابيع قبل عقد الامتحان المروع تشهد تصريحات من كبار المسؤولين فى اتجاهين: الأول أن الامتحانات سوف تكون مناسبة للطالب المتوسط، والثانى أن الامتحانات لن تتسرب هذا العام، حتى لو كانت تسربت فى الأعوام السابقة. أحياناً سوف يضاف أنه لن يُسمح بالغش بدءاً من هذا العام، وعندما أُعلنت نتيجة الثانوية الأزهرية، وكانت نسبة النجاح ٢٨٪، قيل بشجاعة إن ذلك نتيجة أنه لم يُسمح بالغش. نتيجة الثانوية العامة غير الأزهرية لم تكن كذلك، فقد اقتربت من ٨٠٪، وكان فيها آلاف حصلوا على أكثر من ٩٥٪. وبصراحة فإن هناك كارثة يشعر بها المجتمع المصرى فيما يتعلق بنظام الثانوية العامة، ولكن أركانه كلها متواطئة على أن يبقى الحال على ما هو عليه.
الآن وقد امتلكت مريم شجاعة البحث عن العدالة فيما يخص حالتها الفردية، فإن مصر كلها عليها أن تمتلك شجاعة تقييم نظام الثانوية العامة. بشارة مريم فى أنها لن تسكت على حقها تجعلنا نبحث عن بشارة مصر فى أن يكون لديها نظام غير ذلك الذى دمر العملية التعليمية وجعلها من أولها لآخرها بالغة الشذوذ، تقوم على استبعاد المدرسة، وازدهار الدروس الخصوصية، والتعامل مع مئات الألوف من الطلبة، وملايين من أوراق الأسئلة والإجابة. إذا كنا نريد التقدم حقاً فإنه لا يمكن الهروب من مواجهة موضوعين: الثانوية العامة، وما نفعله بشهر رمضان المعظم. ومعذرة فهذه قصة أخرى على أى حال!!