مصر الحال والأحوال: الصفر الكبير

عبد الرحيم كمال الخميس 03-09-2015 21:49

ليس صفر مريم وحدها لكنه صفرنا جميعا، البلاد تُبنى على العدل والمواطنة وتساوى الحقوق، وأغلى الحقوق وأعظمها هو الحق فى التعليم، ووجود شاب متفوق أو فتاة متفوقة هو الكنز الذى تستثمر فيه الدول المحترمة أموالها، ومريم ملاك إحدى الفتيات- الكنز- التى آمنت بطريق العلم ومشت فيه بأمل ورجاء ليخيب رجاؤها وتكتشف أن نتيجتها فى الثانوية العامة صفر، والصفر هذا لا يُعطى إلا لتلميذ ترك الورقة فارغة تماما بيضاء خالية من حبر الأقلام، أو آخر قرر أن يستبدل إجاباته بأغان مثلا وإهانات وشتائم، وظهر الصفر وانهارت الفتاة وانطلقت التصريحات ونُشرت الأخبار بأن الطب الشرعى أثبت أن الخط الموجود فى ورق الإجابة المنسوب لمريم ملاك هو خطها وكُتب بأصابعها، ويأتى السؤال: ما الذى كتبته مريم بأصابعها يستحق الصفر؟ خاصة أنها تحصل على أعلى الدرجات من الصف الأول الابتدائى حتى الثانى الثانوى، ماذا حلّ بالفتاة فجأة وكيف يتراجع العقل كل هذه الدرجات فى سلم التفكير؟ وهل نلغى تاريخها العلمى المتفوق السابق بالكامل،

وأى إجابات يمكن تصورها كتبت حتى تكون النتيجة صفرا؟ وإلى متى سيظل هذا التقييم الرقمى أساسا لتحديد رغبات ملايين الطلاب كل سنة؟ إنه صفر عجيب جدا يذكرنا بأصفار عديدة تحيط بنا كل يوم، ليس بداية من صفر المونديال الشهير الذى كان رسالة للعالم بأكمله أن أقدم دولة فى التاريخ لا توفر لشبابها ملاعب آمنة وامتداداً إلى أصفار كثيرة أخرى تجعلنا نخرج من التاريخ أيضا وكل واحد فينا صفر اليدين، فى الوقت الذى تستشرى فيها المحسوبيات، ويكون كل أستاذ فى الجامعة وكل قاض ومستشار وكل طبيب وكل مخرج وكل صاحب مقام رفيع قادرا على توريث أبنائه وأبناء الجيران والمعارف والأقارب من الدرجة العاشرة فى أرقى الأماكن حتى لو كان حاصلا على الدرجة الأدنى المؤهلة للنجاح، فيدير الأماكن الكبرى ويتولى قيادتها بشر حصلوا بالكاد والواسطة على أحط الدرجات، وفى نفس الوقت تُحرم فتاة متفوقة من حقها ربما لخطأ مصحح فى الكنترول أو خطأ حتى من الفتاة نفسها لارتباك وضغوط إنسانية لا يعلمها إلا الله، أى معيار نستطيع أن نحتكم إليه إذن وأى قدر من اليأس والإحباط سيصيبها ويصيب من على شاكلتها من الحالمين المتفوقين؟ لماذا لا يلجأ الناس وعن اقتناع إلى الواسطة والرشوة والتصارع والطرق غير المشروعة إذن؟

طالما أن الطريق الأشرف هو الأصعب وموصد وبلا مفتاح، وسيجلس كل أب وأم فى البيوت بالساعات يقنعون أبناءهم بضرورة الغش فى الامتحان وضرورة البحث عن طريق ملتوٍ للوصول إلى أفضل الدرجات حتى لا يصل حالهم إلى ما وصل إليه حال مريم ملاك، وسيكون هدف كل أسرة هو البحث عمن يدخل ابنهم ما يشاؤون دون تعب وعناء سواء عن طريق توفير الأموال الباهظة من أى طريق أو الحصول على كارت يحمل توقيع مسؤول مهم، وربما يكون ذلك المسؤول المهم نفسه أصبح مهما رغم أنه بالكاد تخطى حاجز الخمسين بالمائة فى الثانوية العامة بدرجة أو درجتين، إنه ليس صفر مريم ملاك وحدها بالتأكيد لكنه صفرنا جميعا، صفر يحمل ظلاما دامسا لمستقبل الأيام فى عيون الصغار، صفر يمحو ثورات ويُسكت بلاداً ويعلى من صوت القبح. لقد آن الأوان للتفكير فى معيار آخر للتقييم غير تلك الورقة المحشوة بما حفظت العقول من معلومات، معيار علمى وأخلاقى وإنسانى فى آن واحد بدلا من ورقة تحوى كلاماً يجعل أحدهم يحدد مصير صاحبها، إعادة ثقة مريم ملاك بنفسها وبعقلها وبوطنها مسؤولية مشتركة نتحملها جميعا كوطن وكوزير وكوزارة وكمناهج تعليم، لأن أسوأ شىء أن تختل الموازين فيشترى هذا التفوق بماله وسلطته ويُحرم ذاك من تفوقه لأنه لا يملك.. لتكن قضية مريم ملاك ملفا مفتوحا على مكتب السيد وزير التعليم ويتخيل أنها ابنته، ويبدأ إن أراد الإصلاح أن يصلح منظومة افسدها الدهر والمجتمع والدولة وتغيرت المفاهيم فيها والأسس والقيم حتى صرنا نتحرك فى دائرة شديدة الاتساع هى دائرة الصفر فهو ليس صفر مريم ملاك وحدها بالتأكيد.