إذا اعتبرنا أن البرلمان بمثابة الشوك الذى تخشاه القيادة السياسية فى أى مجتمع ديكتاتورى، مما يجعل هناك محاولات دائمة لتعويق وجوده، فما ذنب الورد ممثلاً فى المجالس المحلية، التى تجمع بين الدور الرقابى على أداء الجهاز الإدارى والدور الخدمى للمواطن، مما يجعلها بمثابة حلقة الوصل بين الجانبين، وهو ما يمنح وجودها حالة خاصة لرجل الشارع، على درجة كبيرة من الأهمية، خصوصا فى الأقاليم؟!
المجالس المحلية فى مختلف المحافظات هى بمثابة معامل التفريخ للبرلمانات المتعاقبة، وهى فى نفس الوقت تمثل دورات تدريب على أرض الواقع لقيادات المستقبل، من سياسيين، واقتصاديين، ورجال أعمال، ونجوم مجتمع، إلى آخر ذلك، مما تتطلبه دورة الحياة بصفة عامة، هُم فى معظم الأحوال من الشباب الواعد، الذى يتطلع إلى مستقبل أكثر إشراقاً، وإن نحن أحسنّا اختيارهم كانوا بمثابة الداعم لنهضة الدولة ككل، وإن أسأنا اختيارهم، كانوا كأعضاء الاتحاد الاشتراكى السابق، هليبة، وانتهازيين، ولصوصاً فى كل شيء وأى شيء، بدءاً من الذرة الصفراء، ولقاح المواشى، والسمك الروسى، حتى الكستور، وتيل نادية.
مع هذا الموقف الرسمى غير الواضح، طوال العامين الماضيين، من وجود برلمان حر ومتوازن، يعبر بصدق وشفافية عن إرادة الناس، توارت المجالس المحلية هى الأخرى، وأصبحت فى طى النسيان، على الرغم من حاجة المجتمع القصوى إليها الآن أكثر من أى وقت مضى، ففى السابق كان التمثيل فيها بنسبة عظمى من الحزب الوطنى، وقد يصل ذلك التمثيل إلى نسبة ١٠٠٪ فى بعض المحافظات سواء على مستوى القرية، أو المركز، أو الحى، أو المحافظة، وذلك لعدم وجود أحزاب أخرى على أرض الواقع هناك.
الآن الفرصة كبيرة لتمثيل كل القوى والطوائف فى تلك المجالس، التى هى فى الحقيقة بمثابة برلمانات مصغرة، وإذا علمنا أنها بالأساس تمثيل عائلى وقبلى، فهى إذن بمثابة لم شمل للجميع بدلا من تلك الهرتلة التى تسود المجتمع الآن، حيث الشائعات فى كل مكان، والتشكيك فى كل موقع، هى بحكم الأمر الواقع، إلى جانب مهامها الرسمية، سوف تصبح منبراً للفضفضة والاحتواء، وسوف تصبح داعماً للجهاز التنفيذى بجانب رقابتها عليه.
نحن فى حاجة الآن إلى أجهزة تراقب الفساد على قدر عال من الاحترافية، وقد تكون الرقابة الشعبية هى الأمثل على الإطلاق، كما نحن فى حاجة إلى تعزيز ثقة الجهاز الإدارى بنفسه، وقد تكون هذه المجالس هى القوة الأساسية لتحقيق هذا الهدف، كما نحن فى حاجة إلى استعادة الشارع عافيته بالعودة إلى الأوضاع الطبيعية، حتى لا يظل المواطن يشعر أننا نعيش أوضاعاً استثنائية، تغل طوال الوقت يد المستثمر أو رأس المال بصفة عامة، وتحد من الانطلاق نحو أى آفاق من شأنها النهوض بالمجتمع.
قد تكون هناك تقارير ما، من جهات ما، تتخوف من تمثيل فصائل معينة بهذه المجالس، مثلما هى نفس المخاوف من البرلمان، وقد تكون هناك مخاوف من عدم إمكان سيطرة الدولة الرسمية على هذه المجالس، وقد تراها هذه التقارير أو تلك غير ذات أهمية فى هذا التوقيت، أو أنها بالضرورة يجب أن يأتى دورها بعد الانتهاء من انتخابات البرلمان، التى أراها مازالت فى علم الغيب رغم فتح باب الترشح.
جميعها فى أغلب الظن تقارير غير موضوعية، مخيبة للآمال، ومحبِطة لأى تطور فى المجتمع، ومعوقة لحركة نهضته، تنظر تحت الأقدام، ولا تنظر إلى المستقبل البعيد، أو حتى القريب، بل لا تعى كيفية ولا قواعد بناء الدولة الحديثة، فلا يعقل بأى حال فى القرن الحادى والعشرين أن نتحسر على برلمان السبعينيات من القرن الماضى، ولا المجالس المحلية فى الثمانينيات، ولا مراكز شباب التسعينيات، ولا حتى الجمعيات الأهلية فى بداية الألفية، أو الاتحادات الطلابية حينذاك، كل ذلك يبدو أنه قد ذهب مع الريح، استناداً إلى تقارير من هنا أو وشايات من هناك.
بناء الدولة، شئنا أم أبينا، سوف يتطلب إعادة بناء كل ذلك وغيره على النظم العالمية المشهود لها فى هذا المجال، لن يسمح أحد بالعودة إلى الوراء، لا من الداخل، ولا من الخارج، كما لا أعتقد أن أحدا يستطيع مقاومة التطور الحاصل فى العالم من حولنا، كما ليس هناك أى مبرر لمقاومة ذلك التطور تحت أى ذرائع، هى فى حقيقتها واهية.
حكم الفرد، أيها السادة، فشل فشلا ذريعا فى كل البقاع وكل القارات، وكانت النتائج دائماً وأبداً دموية ومدمرة مهما طال الوقت، وبالتالى ليس أمامنا إلا أن نبدأ، ولتكن البداية من المجالس المحلية، ليتها تكون مع انتخابات البرلمان، إن هى أُجريت بالفعل، لتمثل رقابة شعبية مصغرة على الجهاز التنفيذى، وممارسة برلمانية مصغرة بالقرى والمدن، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، وتدور العجلة إلى حيث يريد المواطن، وليس كما يرى الفرعون.