تداعيات تنامي التيارات اليسارية المتطرفة في تركيا (تحليل)

كتب: جابر الشيخ الإثنين 31-08-2015 21:16

أظهرت عدة معطيات خرجت إلى السطح في تركيا عن تصاعد ظهور التيارات اليسارية المتطرفة، عقب مجموعة من الأحداث التي عصفت بالبلاد، بعد فترة من حكم حزب العدالة والتنمية ذات الجذور الإسلامية، وتفرده بالحكم لمدة 13عاما.

وبينت نتائج الانتخابات الأخيرة التي أجريت في 7 يونيو الماضي تراجع حزب العدالة والتنمية في ظل صعود لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي، المصنف على أنه ذو توجهات شيوعية يسارية، فيما ظهرت حوادث عنف عديدة استهدفت مقار أمنية في تركيا في فترة ما قبل الانتخابات، تبنتها جبهة التحرير الشعبي الثوري الشيوعي، الذي لم يكن له نشاط مكثف خلال السنوات السابقة في الفترات السابقة.

كما أن حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض، يضم قوى يسارية عديدة، وهو الحزب الثاني في البلاد، وحصل على ربع أصوات الناخبين، ومع إضافة الأصوات مشتركة مع حزب الشعوب الديمقراطي، يظهر اتساع رقعة القوى اليسارية التي تصاعدت في الفترة الأخيرة.

ويرى مراقبون أن ممارسات حزب العدالة والتنمية وسعيه إلى إقرار تشريعات تهدف إلى فرض سياسته في زيادة مظاهر معينة ضمن الدوائر الحكومية والمدارس، هي ما سببت رد فعل شعبي، وهو في الضغط وفرض وإملاءات معينة، كما أن الأحزاب العلمانية واليسارية تصدت للتشريعات من مثل السماح بارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة، وهو ما كان غير مسموح به، ويستهدف أجيالا من الأطفال وتعليمهم وفق مناهج محددة، من أجل تغير بنية البلاد، فضلا عن إشراك أنصار الحزب في مختلف مؤسسات الدولة.

وعلى الرغم من انتقادات القوى اليسارية، ومحاولة تدخل الجيش التركي المعروف بعلمانيته في تصحيح الوضع في البلاد، إلا أن ما تصفه المعارضة من الكبت الحكومي الممارس على وسائل الإعلام، زاد من حدة الاختناق لدى الشارع التركي.

من جانب آخر، بدأت الأصوات اليسارية بالتصاعد مع أحداث ميدان تقسيم المعروفة بـ«غزي بارك»، حيث نظم الشباب الجامعي، المطالب بالحفاظ على البيئة تظاهرات سلمية ردت عليها الحكومة بعنف، سقط إثرها قتلى وجرحى، ولجأ الشعب إلى ممارسات معينة طيلة فترات في يونيو 2013، من قرع على الطناجر، وإطلاق أبواق السيارات، وإشعال وإطفاء أضواء المنازل، في محاولة إحياء مظاهر دعم تدخل عسكري سابق، للحد من سياسات حكومات ذات توجه إسلامي سابقا، وتصاعدت الأحداث وتفاعلت معها دول العالم أجمع، منتقدة ممارسات الحكومة التي استقصت جزءا من الشارع التركي.

ومع الكشف عن ملفات فساد الحكومة، بدأت عمليات شنتها جبهة التحرير الشعبي الثوري، مستهدفة عددا من المقار الأمنية والقوى التركية، ففي 6 يناير من العام الماضي، استهدف تفجير انتحاري مقر الشرطة السياحية في إسطنبول، فاتهمت السلطات المختصة إحدى منسوبات الجبهة، إلا أن والدة المتهمة عند معاينتها للجثة نفت أن تكون المتهمة هي ابنتها، فأعلن أن منفذة الهجوم هي من منسوبي داعش وقتل زوجها في سوريا، وهم من داغستان.

وبعد أيام من ذلك استهدفت هجوم مسلح آخر قوات الأمن في ميدان تقسيم قلب إسطنبول النابض، واتهمت نفس الفتاة أيضا بالهجوم بعد أن تمكنت من الهرب مستغلة ازدحام المنطقة، إلا أن هجوما بعد أيام قليلة أخرى استهدفت دائرة أمن إسطنبول، أسفر عن مقتل المتهمة بالعملية السابقة، لتستدل الحكومة الستارة على ملفها، ولكن ما أن حل نهاية مارس، حتى نفذ شخصان من منسوبي نفس الجبهة اليسارية عملية اختطاف مدعي عام إسطنبول محمد سليم كيراز، قبل قتله ومقتلهما، وبث المهاجمان عملية الاختطاف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي استغلته حسابات الجهات اليسارية ونشر أعلامها وشعاراتها، وتناقلها عبر يوتوب وفيس بوك وتويتر، الأمر الذي دفع لاحقا الحكومة التركية لطلب حجب المواقع ومسح المواد المنشورة.

وأحدث العمليات التي نفذتها الجبهة في إسطنبول استهداف مقر القنصلية الأمريكية، الاثنين الماضي، بعملية متزامنة مع حزب العمال الكردستاني، ونفذت العملية سيدتان، فرت الأولى فما أصيب الثانية واعتقلت، وتبين لاحقا أنها من المسجونات من الجبهة، وأفرج عنها قبل فترة قصيرة، وإن لم تسفر العملية عن سقوط قلتى، فإنها أظهرت مجددا تصعيدا من قبل الجبهة في البلاد، وإصرار منسوبيه على الإنتقام والقيام بعمليات عنف.

الكاتب والباحث المختص بالشؤون التركية على باكير، يرى أن التنظميات اليسارية المتطرفة ظاهرة قديمة في تركيا وليست حدثا طارئا أو ظاهرة مستجدة، وقد كان لها السبق أيضا في القيام بعمليات إرهابية وانتحارية في البلاد، لكن تطورات الظروف الخارجية الدولية والداخلية المحلية التركية أدت إلى احتوائها.

وبين أنه لم يتم القضاء على هذه التنظيمات نهائيا بعد، فتركيا لا تزال واحدة من الدول القليلة في العالم التي تعاني مما وصفه بـ«الإرهاب اليساري»، إن صح التعبير، حيث إنه غالبا ما كانت هذه الظاهرة أيضا تتصّل بحزب العمال الكردستاني، أو بأحزاب ظهيرة له، أو تعمل على نسقه من مثل (جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري)، ولم يقتصر عملها على الذكور فقط، وإنما شمل الإناث أيضا.

ولفت الباحث إلى أنه كان هناك «انتحاريات»، مع عودة حزب العمال الكردستاني إلى استخدام السلاح مؤخرا بدعم من قوى محلية وإقليمية ودولية، لتعود هذه الظاهرة من جديد.

وحول أبعاد الظاهرة محليا ودوليا، ذهب باكير إلى أنه مما لا شك فيه أنّ تأثيرها الإقليمي والدولي محدود حاليا، ومع ذلك فالتداعيات السلبية، والنفسية، والمادية لأعمالها على الصعيد الداخلي التركي سلبية للغاية، لكن مثل هذه الظاهرة عادة لا تحمل معها أي أفق لأي نتيجة مأمولة، فغالب عملها تخريبي محض، على حد تعبيره.

أما المحلل السياسي التركي بكير أتاجان، فأوضح أنه في الظروف الحالية، الحركات اليسارية وخاصة في المدن الكبيرة، أخذت طابعا سياسيا جديدا، وتميزت بالعمليات الإرهابية فقط، ولذا لم يكن لها أي اعتبار جماهيري كما كانت عليها قبل سنين، مبينا أنه لم تنتشر التنظيمات بالشكل الكبير.

ولفت إلى أنه ظهرت منذ بدايات القرن 19 التنظمات اليسارية بعد إعلان الاشتراكية والشيوعية في روسيا، وهذه التنظيمات ظهرت بالتوازي مع روسيا في تركيا أيضا، وحتى عندما أعلنت الجمهورية التركية، كان من المتوقع أن تعلن دولة شيوعية اشتراكية من قبل مؤسس الجمهورية كمال أتاتورك، ولكن أعلنت الجمهورية ولم تكون شيوعية واشتراكية، بل نظام رأسمالي جديد، مما أنتج خيبة أمل الشيوعية السوفيتية في هذه الفترة.

وأشار إلى أن الحركات اليسارية استمرت بالظهور منذ ما قبل إعلان الجمهورية وبعدها، وامتدت وانتشرت بكثرة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث وقعت الانقلابات العسكرية في البلاد خلال الستينات والسبعينات والثمانينيات من القرن الماضي، بهدف القضاء على الحركات الشيوعية والاشتراكية في تركيا، لذا فإنه إلى يومنا هذا، لا زالت الحركات اليسارية والشيوعية كتنظيمات وأحزاب، موجودة بكثرة في المجتمع التركي.

وفي نفس السياق، أكد أنه بعد فشل الشيوعية عقب التسعينيات في روسيا، أصبحت الحركات اليسارية الشيوعية والاشتراكية في تركيا ضعيفة ولم تستطع أن تعمل أي شيء، سوى الاشتراك في حركات التمرد والقتل والإرهاب، علما بأن هذه الحركات كانت في سنة 1960 و1970 هي الموجودة في البرلمان.

وخلص إلى أنه حتى حزب الشعب الجمهوي بعد الحرب العالمية الثانية، اتجه مسارا يساريا سياسيا، وما زال الحزب إلى يومنا هذا بنفس النهج، إلى جانب الأحزاب الصغيرة المتواجدة من حين لأخر في السنوات الأخيرة في البرلمان التركي، رغم أنها تلقت ضربة من بعد انقلاب عام 1980 بقيادة الجنرال الراحل كنعان إفرن، حيث اضعفت هذه الأحزاب وقسم كبير منها انحل، ولم تبق إلى يومنا هذا إلا أسماء وبعض ممثليها، فيما في الظروف الحالية الحركات اليسارية وخاصة في المدن الكبيرة، أخذت طابعا سياسيا جديدا، وتميزت بالعمليات الإرهابية فقط، ولذا لم تكن لها أي اعتبار جماهيري كما كانت عليها قبل سنين، مبينا أنه لم تنتشر التنظيمات بالشكل الكبير.

ويذخر تاريخ جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري في تركيا، بسجل حافل من التفجيرات والهجمات المسلحة، كان آخرها الاعتداء الذي استهدف القنصلية الأميركية في اسطنبول، حيث تعود جذور المنظمة اليسارية المتطرفة، التي اتخذت اسمها الحالي عام 1994، إلى ستينات القرن الماضي، حيث قامت بعمليات اغتيال ضد شخصيات سياسية واقتصادية وأمنية، فضلا عن استهداف المصالح الغربية ومقرات حزبية داخل تركيا.

وبعد عمليات عنف عديدة، وفي عام 1994 اتخذ التنظيم قرارا بالتحول إلى حزب واعتمد اسم «جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري»، بقيادة دورسون قره طاش، بغية الترويج للفكر الماركسي اللينيني، وأعلنت المنظمة مسؤوليتها عن عمليات عديدة بينها استهداف منشآت عسكرية ولوجستية تعود لحلف شمال الأطلسي الناتو والولايات المتحدة، واغتيال عضو مجلس إدارة شركة صابانجي القابضة، أوزدمير صابانجي عام 1996، وعملية انتحارية ضد السفارة الأميركية في أنقرة، واعتداءات طالت مقري وزارة العدل وحزب العدالة والتنمية، والمديرية العام للأمن.

ورفضت اليونان تسليم تركيا 37 من أعضاء المنظمة الموجودين على أراضيها، حيث تعد اليونان من أبرز الدول التي تستضيفهم، ويعتقد أن بعض عناصر المنظمة تسللوا عبر أراضيها إلى تركيا ونفذوا هجمات فيها، على غرار منفذ الهجوم الانتحاري على السفارة الأميركية، «أجاويد شانلي» والمتورطين في الاعتداءات التفجيرية والمسلحة المتزامنة على مقري وزارة العدل وحزب العدالة والتنمية، «حسن بيبار» و«محرم قره تاش».

ومن الواضح أن عملية ظهور التنظيمات في الفترة الأخيرة تنبئ بتصعيد جديد، وربما حتى الآن لم تصل لمرحلة تشابه السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن التحولات التي شهدها المجتمع التركي، فضلا عن التطورات السياسية، تشي بتواصل استهداف التنظيمات لعدد من الأهداف المزدوجة، منها مهاجمة مقرات حكومية، وأخرى لدول العالم، بغرض استهداف القوى الرأسمالية، والترويج للفكر الذي غيب لفترة من الزمن في البلاد، وتفرد العدالة والتنمية بالحكم.