فتحت عيني صباح اليوم على إشعار من الفيسبوك يقترح عليّ مشاهدة فيلم وثائقي قصير عن «صناعة الصابون النابلسي بالطريقة التقليدية».
أحب هذه الأفلام وأستمتع بمراقبة الطرق التي ابتكرها قديمًا الإنسان- في حدود إمكانياته وموارده- ليُنتج بعبقرية، ويضيف إلى الحياة أو على الأقل، يتحايل عليها حتى تمر.
راقبت بشغف مشاهد الفيلم، التي بدأت بعجوز رشيق ينقل- مستعينًا بـ«سطل» معدني معجونَ الصابون من بئر حجرية تحفظه سائلًا عند درجة حرارة محددة، ويفرغه في إناء معدني أكبر، ليأتي شاب قوي البنية فيحمله بصعوبة تكشف عن مدى ثقله، ويصعد به دَرجًا حجريًا إلى بهو واسع تتخلله أعمدة تحمل السقف، حيث يسكب محتويات الإناء على الأرض المعدة لذلك مسبقًا، وهنا يتولى رجل ثالث أمرَ فرد معجون الصابون وتسويته على الأرض مستعينًا بأداة تشبه «المسطرين» الذي يستخدمه «مبيضو المحارة» لفرد الإسمنت على الجدران.
استكملت مشاهدة الفيلم مدققًا النظر في كل مرحلة، متخيلًا ما سبقها لدى الأجداد من تفكير وملاحظة وتجريب حتى وصلت إلى هذا الشكل الذي كان يعد في وقته إنجازًا، ولاحظت ما تتطلبه تلك المراحل من جُهد عضلي وآلي لا غنى عنهما لضمان التنفيذ بالشكل وفي الوقت الصالح للشروع في المرحلة التي تليها.
استمتعت بالمعالجات الرشيقة والتقنيات البسيطة والأدوات الصغيرة التي ابتكرها هؤلاء الأجداد الكبار لتنفيذ العمل، كتلك المطرقة التي تحمل اسم الشركة صانعة الصابون وشعارها، وضحكت حين رأيتها تتحول في لحظات إلى ما يشبه الآلات الموسيقية في أيدي الرجال وهم يطرقون بها وجه الصابون بعد تيبّسه على الأرض في مرح.
أخذني شكل الأبراج التي يبنونها من قِطع الصابون بعد تقطيعها وجمعها من على الأرض، إذ يرصونها في أبراج أسطوانية يضيق قطرها كلما صعدت إلى أعلى، تاركين فراغات بين كل قطعة وما يجاورها من قطع للتعجيل بجفافها والحدّ من فرص التصاقها ببعضها البعض، ثم الحرفية التي يقوم بها العامل بهدم ذلك البرج بسحب صابونة تلو الأخرى ليغلّفها بورق مخصص استعدادًا لكرتنتها وتسويقها.
رغم سعادتي بالمشاهدة واندماجي مع التفاصيل الصغيرة وبهجتي بالحميمية التي يؤدي بها الصنايعية مهام أعمالهم، كنت أقاوم شعورًا موازيًا بالغضب والحنق تصاعد طرديًا مع استغراقي في المشاهدة، إلى أن أفسدَ علي تمامًا بهجة المتابعة فبات من اللازم التخلص منه، والتنفيس عنه ولو بمسبة؛ كلمة شتيمة أسمحُ لها أن تمرّ من بين شفتي، علّها تُنفّس عن هذا الغضب المكبوت- كما يقول علماء النفس الذين يضيفون أنها تصلح أحيانًا كبداية لمناقشة الأمور بهدوء.
فكان أن سحبت نفسًا عميقًا، وسمحت للمسبة - التي راحت تتشكل في عقلي- بالمرور معه عبر لساني، وصرخت: «يا ولاد الإيه…. ياااا ديناصورات».
***
الديناصورات كائنات بائدة، أي منقرضة، عاشت وسادت في حقب قديمة جدًّا، وكانت سيدة الأرض تقريبًا لملايين السنين، وظنّ العلماء -حتى وقت قريب- أنها لم تخلّف أي أثر من نسلها؛ حتى ظهرت نظرية تقول إن جميع الطيور اليوم هي سليلة تلك الديناصورات البائدة.
تقول إحدى النظريات المتعلقة بدراسة أسباب انقراض الديناصورات إنها نفقت تباعًا؛ نتيجة لنقص في الغذاء أصاب الأرض لم تصمد معه الديناصورات الشهيرة بضخامتها وحاجتها إلى كميات طعام كثيرة سواء تلك الديناصورات اللاحمة أو التي تتغذى على الأعشاب أو غيرها.
نظرية أخرى ترى أن معظم الديناصورات كانت في حجم إنسان عادي، ولم تكن كلها ضخمة، مما يُفسد نظرية الحجم تلك، ورأت النظرية الجديدة أن اختفاء الديناصورات كان بسبب اصطدام كويكب بالأرض قضى على معظم أشكال الحياة عليها في ذلك الوقت.
أكثر النظريات شيوعًا ترى أن انقراض الديناصورات لم يحدث فجأة، أو دفعة واحدة بسبب كارثي كاصطدام كويكب بالأرض أو مجاعة، إنما تم على مراحل زمنية طويلة، بسبب عدم قدرة هذه الكائنات على التكيف والتأقلم مع متغيرات البيئة المحيطة، إذن فقد كان سبب انقراض الديناصورات هو فشلها- الذي يبدو أنه كان فاقعًا- في تطوير إمكانياتها وإنتاج فصائل جديدة مختلفة تناسب تطور الزمن، «وكان هذا الجمود في تاريخ نشوئها هو ما حكم عليها بالفناء».
«يا ولاد الإيه.. . يا ديناصورات!».
أعود هنا إلى ديناصوراتنا العربية التي أثارها فيلم صناعة الصابون النابلسي، وهو ليس محل إدانة.
أقول «العربية» وأعني «المصرية» تحديدًا التي لم يعد ممكنًا- للأسف- فصلها عن الحضارة العربية لأنها «تدنصرت» هي الأخرى ذات يوم، أي فعلت كما فعلت الديناصورات، فأكلتها حضاراتٌ لاحقة كثيرة.. آخرها العربية، حتى الآن بالطبع!
وما إن خرجت المسبة حتى صدقت ما يقوله علماء النفس، بدأت المناقشة: لماذا ينتهي دائمًا في مكان آخر، كلُّ خط مستقيم نرسمه من بداياتنا التي تستحق الفخر؟
إذا كانت نابلس -مثلًا- هي مهد صناعة الصابون؛ فلماذا لم تكن التطورات العظيمة المرتبطة بتلك الصناعة هناك، لماذا كانت في مكان آخر؟ في أوربا مثلًا!
قِس على الصابون النابلسي- على بساطة فكرته- كلَّ منجزاتنا التاريخية، التي يحلو للبعض أن يفخر بها حتى الآن، وهو فخر ما عاد يستثير في قلبي سوى تلك المسبة التي تفجرت في ذهني اليوم، وأظنها -أو أردتها- وقحة: «يا ولاد الإيه… يا ديناصورات!.
ديناصورات لأننا لم نفكر كيف نُطوّر ما ابتكره ذات يوم أجدادنا. ديناصورات لأننا انشغلنا بالجدل حولهم عن التفكير والتخطيط والعمل وتطوير ما أنتجوه. ديناصورات لأننا فشلنا في التأقلم مع متغيرات الحياة، وأهملنا ما أبدع أجدادُنا في ابتكاره وصنعه ولم نطوره ونأخذه إلى منطق العصر ليأخذنا إلى صدارة العصر، بينما فعل آخرون ذلك؛ ببساطة رفضوا أن يكونوا ديناصورات، اختاروا- أو قرروا أن يكونوا طيورًا، فتطوروا وانتقلوا مع العصر وصاروا جزءاً من تطوره، ثم سادةَ تطورِه... وبالطبع سادتنا، بنوا على ما قدسناه نحن -بعد أن خلصوه من قداسته المزيفة، عرفوا أن كل مقدَّس ميت، ولا يُرجى من الميت شيء يتعلق بالحياة.
ديناصورات لأننا لم نخطط لحياتنا فصرنا بالطبيعة جزءًا من مخططات الآخرين؛ نستهلك ما ينتجونه، ونلوك ما يُلقونه، ونظل نفاخر بتراث صنعه أجدادُنا عندما كانوا بشرًا، مباشرة قبل أن نتحول إلى ديناصورات... ولكن في متحف التاريخ البشري.
يا ولاد الإيه... يا ديناصورات.