تحدثتُ فى كتابى الجديد «الجهاد ضد الجهاد» عن ظاهرة «توزيع الألقاب» بين المتطرفين.. فهذا «أعظم علماء الحديث».. وهذا «أعلم أهل الأرض»!
وقد أَجْمَلتُ ذلك تحت عنوانٍ واضحٍ: «الإسلام السياسى.. جرأة الجهل».
(1)
تتصارع الجماعات الإسلامية على الألقاب ذات المَهابة والمكانة. وقد جاء وصْف قادة الإرهاب بـ«الأمراء».. ومنْح زعماء المجموعات الإجراميّة لقب «الأمير».. فى سياق تلك الحرب المفتوحة نحو السُّلطة والسطْوة.
وعلى صعيد المعرفة الدينية.. تمضِى المعركة بالدرجة ذاتها من الرغبة فى الظُهور والصراع على الأضواء والمجد.
وحين يتأمل المرء أوصاف شيوخ التطرف يُصاب بالذهول من حجم المديح والإطراء الذى لا أساس له.
(2)
ثمّة سيناريو ثابت فى تقديم شيوخ التطرف.. يبدأ بالكذب بشأن «رحلة الشيخ».. حيث يجرى تقديمُه باعتباره قد وُلِدَ عالمًا.. وعاش زاهدًا.. ويحيا مجاهدًا.. ثم يجرى القول بأن «الشيخ» قد تلقّى العلم على يد كبار العلماء.
وجُملة «تلقّى العلم» هنا تُوحى بأننّا إزاء واحدٍ من علماء القرون الأولى.. وإزاء «علّامة» جاء من بطون التاريخ إلى قلب الحاضر.
وإذا ما كان الشيخ ضمن «المنظومة الإخوانية».. يجرى صياغة تاريخه الجهادى فى الجماعة، وقُربِه من المؤسسين الأوائل.. وصلتِه بعددٍ من مرشدى الجماعة.. وخوضِه عددًا من «المِحَن» التى مرت بها.
أمّا إذا كان من «المنظومة السلفيّة» فيجرى صياغة تاريخ آخر.. حيث يتم ربطه بكبار شيوخ الدعوة السلفية.. ويجرى «حشْر» اسمه مع أسماء مثل الشيخ الألبانى أو الشيخ ابن باز.. ثم يتم دفعُه إلى الواجهة الإعلامية.. وتقديمه كعالم لا مثيل له.. وربطِه بعددٍ من البرامج.. وترتيب مكالمات الانبهار والتسليم بالشيخ «الجليل».
(3)
لقد تأملتُ طويلاً.. ظاهرة الشيخ محمد عبدالمقصود.. وقد هالَنى تطبيق السيناريو المذكور ببراعةٍ لا نظير لها.
فالشيخ محمد عبدالمقصود- الذى ظهر فى مؤتمرات الرئيس الأسبق محمد مرسى، وظهر بعد ثورة يونيو فى فضائيات قطر وتركيا- قد تخرّج فى كلية الزراعة.. ولم يحصل على أى درجة علمية فى العلوم الإسلامية.. ولكن جانبًا كبيرًا من التيار المتشدد يطلق عليه لقب «فقيه مصر الأول»!
(4)
وُلد «فقيه مصر الأول» فى محافظة المنوفية.. وتخرج فى كلية الزراعة وعمل فى مجال البحوث الزراعية. يقول أنصاره إنه ترك الزراعة من أجل تحصيل العلوم الشرعية، ثم عاد للعلوم الزراعية من جديد.. والثابت أنه لم يحصل على أى إجازة رفيعة فى العلوم الدينية.
هنا تمّ ترميم هذا الخلل بتلك الجملة الشهيرة: «تأثّر الشيخ عبدالمقصود بالشيخ الألبانى والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين».. وهى جملة فضفاضة لا معنى لها.. ذلك أن هناك ملايين ممن تأثّروا بالشيوخ الثلاثة، ولكن أنصاره يريدون الإيحاء بأنه وهُمْ فى دائرةٍ واحدةٍ من حيث العلم الشرعى.
(5)
لقد بحثتُ عن أىّ كتبٍ أو مؤلفات للشيخ محمد عبدالمقصود.. لم أجدْ كتابًا واحدًا، ولا مرجعًا واحدًا.
وكل ما هو موجود مجموعة برامج متوسطة المستوى فى فضائيات متشددة.. ولكنها تحمل عناوين كبرى من نوع «مجالس العلماء» و«مجالس الشريعة».
(6) لا يتذكر أحدٌ منّا الشيخ محمد عبدالمقصود إلا فى موقف واحد فى عهد الدكتور مرسى حين دعا الله أن يجعل يوم 30 يونيو يومًا مشهودًا فى انتصار الإسلام وهزيمة المنافقين.
وبعد ثورة يونيو فوجئ المسلمون بفتاوى مفزعة للشيخ الذى باتَ يحمِل رسالة تدمير المجتمع الإسلامى.
ثمّة فتاوى ثلاث لا يمكن أن يُصدّقها عقل:
• الأولى: قول الشيخ عبدالمقصود إنه على الزوجة أن تعمل على الطلاق من زوجها إذا كان انقلابيًا ومؤيدًا للنظام!
• والثانية: فتواه بعدم جواز الإفطار فى رمضان مع مؤيدى السيسى.. وقوله: لا تذهب إليهم، ولا تأكل عندهم ولو كانوا من أقاربك.. هؤلاء ليسوا من أهلك.. إنهم عملٌ غير صالح!
• والثالثة: ما أفتى به الشيخ محمد عبدالمقصود قبل أيام بعدم جواز حضور أفراح أنصار النظام ولو كانوا من الأهل والعائلة.
ثمّ دعوة «الشيخ» إلى قطْع صِلة الرحم إذا كان الأهل من أنصار النظام.. وقال: إن بعض الصحابة قطعوا الرحم.. وإن الإمام أحمد بن حنبل فعل ذلك!
(7)هكذا يمضى الشيخ محمد عبدالمقصود لتفكيك المجتمع وكسْر الأمّة.. ويعمل مشروعه على التفريق بين المرء وزوجه، وعلى الدعوة لعقوق الوالديْن.. وصراع الأشقاء.. وقطْع الأرحام.. وإلغاء قواعد التربية فى الإسلام.
(8)ليس عند الرجل العِلم الشرعى الكافى للنقاش الجاد بشأن ما يقول.. وربما لو كان قد بقىَ فى علوم الزراعة لكان مُفيدًا لنفسه ولبلده.. ولكنه اختار ألّا يمضى فى حرِث الأرض وإعمار الحياة.. واختار حرث العقل وتعطيل الحياة.
إن الشيخ عبدالمقصود.. الذى لم يدرس العلوم الشرعية، ولم يؤلف كتابًا واحدًا.. وأبرز نشاطاته بالخارج زياراته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.. قد وجَد كتيبةً إعلاميةً تنهال عليه بالتقدير والتقديس.
إننا لم نسمعْ عن ألقابٍ فخيمة بحقِّ الإمام محمد عبده، أو الإمام عبدالحليم محمود.. ولا بحق الشيخ محمد أبوزهرة أو الشيخ محمود شلتوت.. ولا بحق الشيخ الشعراوى.. ذلك الإمام الذى طالما تدفّق علمًا وفكرًا.. بلا حدود.
ولكننا نجد على مواقع المتشددين حفنة ألقاب تحيط بالشيخ عبدالمقصود: «رمزٌ من رموز الإسلام».. «أمير الفقهاء».. «بحر العلوم الشرعية».. «فقيه مصر الأول».. «حجة الله فى الأرض»!
(9) تمنيْتُ لو أن الشيخ محمد عبدالمقصود قد ترك ما هو فيه الآن من صراعات السياسة والحرب على الدنيا.. ليختتم حياته وقلبه مطمئنٌ بالإيمان.. لا مطمئنٌ بالإخوان.
وتمنيْت لو أنه أدرك أن آراءه وفتاواه إنما تحقق الهدف الذى سعى له أعداء الإسلام قرونًا طويلة: أن يصبح المسلمون بعضُهم لبعضٍ عدواً.. وأن تصل حضارتهم إلى حالة من العَدَم.. إسلام بلا مجتمع، ودين بلا أُمّة!
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر