نادرًا ما أشاهد الأفلام الأمريكية التي يظهر فيها «الزومبى» الموتى الأحياء، فهى تصيبنى بالهلع الممزوج بالتوتر.. في الأسبوع الأخير انتابتني تلك المشاعر وأنا أتابع أخبار موت مهاجرين غرقًا في البحرالمتوسط وخنقًا في شاحنة في النمسا.
ماذا يتبقى من الحياة.. بعد أن تصبح ملاذًا للموت؟ وماذا يتبقى من الأوطان بعد أن اجتاحها الزومبى كأسراب الجراد الكاسحة، ولم يتركوا مساحة للأحياء الذين فارقوها رغمًا عنهم وفى القلب حسرة على الذكريات وفراق الآباء والأحبة؟.
الموت.. ياله من تعويذة سحرية يرتديها المهاجر حول عنقه، تقتله لو لم ينجح في نزعها في الوقت المناسب، أتابعه وهو يحاول أن يقنع أمه، وعد بحياة أفضل، هناك، حيث تجد القطط والكلاب ملاذًا آمنًا ووجبة مشبعة وقانونًا يحمى الحقوق، تمتثل في النهاية وتنزع قرطها الذهبى، يبسط يده فتلقى فيها الأم بآخر كنوزها وتقول بأسى: "ربنا يفتح عليك يا ابنى"، الأم شاخت، لم يعد يغشاها هذا الإحساس الخادع والرائع المسمى بالأمل، لكن «هو» مازال الأمل يراوده، لا يفكر في المخاطر التي يمكن أن يلاقيها، لكن في المكاسب التي يمكن أن يتحصل عليها لو نجح في الوصول إلى أوروبا برًا أو بحرًا.
أوروبا.. ملاذ المهاجرين، أرض الشبع بعد جوع والأمن بعد خوف والحرية بعد قمع والسعادة بعد شقاء.. إنها أشبه بالجنة التي وعد بها الله عباده الصالحين.
في طريقك إلى الجنة لابد أن تمر على البحر الأبيض الذي لم يعد "أبيض"، بل أسود بلون الموت، يبتلع المهاجرين دون رحمة، تحول إلى مقبرة جماعية لألوف الجثث:عرب وأفارقة، هاربون من ساحات الحرب وشبح المجاعات وغول الفقر وظلم الحكام وصلف المحكومين.
في منتصف القرن الماضى كان الحديث عن الفلسطينى باعتباره حالة فريدة بين العرب، لاجئ يبحث عن وطن خارج حدود الاحتلال، والآن ما يقرب من ثلث الشعوب العربية تبحث عن وطن بديل.
في أوائل ستينيات القرن الماضى، كتب غسان كنفانى قصة: «رجال في الشمس»، كانت بمثابة جرس إنذار، صرخة استغاثة، تتحدث القصة عن: أبوقيس، أسعد ومروان ثلاثة فلسطينيين يعيشون في المخيمات، ظروفهم الحياتية صعبة، ويريدون السفر إلى الكويت بطريقة غير شرعية، وكانت تمثل لهم الفردوس المفقود والأمل المنتظر والحل لكل الأزمات.
ومن أجل ذلك يلجأون لأبي خيزران، سائق ماهر لشاحنة قديمة يملكها كويتى وعلى الشاحنة خزان ماء فارغ يستغله في إخفاء من يريد عبور الحدود متهربا، وكانت الخطة عبور الحدود العراقية ثم الكويتية، شخص مثل أبي خيزران موجود في كل العصور، يعيش ويرتزق على محن وعذابات الآخرين.
نجح الهاربون الثلاثة في عبور الحدود العراقية، وفى طريقهم إلى الحدود الكويتية كان عليهم أن يختبأوا من جديد في الخزان الذي أغلق غطاؤه بفعل الهواء الساخن، ولحظهم التعس طال حديث أحد أفراد شرطة الحدود مع أبى خيزران. كان الطقس شديد الحرارة والشمس تقذف بحممها على الخزان المعدنى، وعندما عبر أخيرًا الحدود، نادى عليهم ليبشرهم بنجاح مهمته، وليخرجوا من الخزان الذي تحول لفرن مغلق، لكن للأسف لم يستجب أحد لندائه، واكتشف وفاة الثلاثة، صرخ بحدة: "لماذا... لماذا لم تدقوا الخزان؟".
أحزان أبى خيزران لم تستمر سوى دقائق معدودات.. قرر بعدها إلقاء الجثث الثلاث على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية لإلقاء قمامتها.
تذكرت قصة غسان كنفانى حينما قرأت خبر العثور على جثث مهاجرين سوريين في شاحنة مهجورة على الطريق السريع داخل الحدود النمساوية وقرب الحدود مع المجر، 71 جثة تعفن بعضها.. كانت الغالبية من الرجال وعدد قليل من الأطفال والنساء، اختنقوا لعدم وجود أي تهوية بصندوق الشاحنة، تركهم أبوخيزران ورفاقه على الطريق وهرب كما فعل منذ أكثر من 50 عاما.. وكأنهم لم يقرأوا القصة ولم يستفيدوا من التجربة، وفعلوا مثلما فعل أبوالقيس وأسعد ومروان ولم يدقوا باب الخزان، ونفعل نحن الشىء نفسه، نقرأ القصة من جديد، نتأثر ونتساءل بتعجب: "لماذا لم يدقوا باب الخزان؟" وكأنهم طول الوقت لم يفعلوا وكأننا طول الوقت لا نسمع استغاثاتهم.. هل تسلل الحزن إلى قلبك.. لا تحزن.. حاول أن تنسى كالحكام والزعماء والعظماء.. هذا حال الدنيا.
ektebly@hotmail.com