فى مقال سابق تكلمنا عن حتمية استحضار الوعى العام بمشكلاتنا وأزماتنا، والتحديات التى تواجهنا، وكيف أنه السبيل إلى العلاج، بل الخروج من النفق المظلم.. لكن من الضرورى أن نلفت الانتباه إلى أنه دون أن تكون لدينا إرادة الفعل، فسوف نظل فى أماكننا لا نحرك ساكناً ويضيع من بين أيدينا كل شىء.. مثلاً، نحن لدينا وعى بأن التنسيق والتكامل بين الدول العربية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. إلخ، لهما أهمية كبرى فى حياتنا، من حيث النهوض، والتقدم، علاوة على إحراز القوة اللازمة فى عالم لا يحترم فيه سوى الأقوياء.. لكن الوعى شىء، وترجمته وتجسيده على أرض الواقع شىء آخر.. أيضا، هناك وعى تجاه مشكلة التعليم فى مصر، من حيث تحديد طبيعتها وحجمها، وما تتطلبه من وسائل وأدوات لعلاجها، وهكذا.. لكن، هل توجد لدينا إرادة قوية تترجم ذلك كله إلى عمل حقيقى على أرض الواقع؟ كذلك، لدينا وعى بأن لكل مرحلة أولويات، وأن لكل أولوية وسائل وأدوات، وأنه تم تحديد ذلك بدقة، فهل توجد لدينا إرادة قوية لتحويل هذه الأولوية إلى عمل، وتكليف الشخص أو الأشخاص المناسبين للقيام به، بل ومتابعتهم كذلك إلى حين الانتهاء منه؟ إذا كانت الإجابة بالسلب، فسوف يبقى الوعى معطلاً، وغير مستفاد منه.. وهكذا بالنسبة للمشكلات الأخرى، كالصحة، والزراعة، والصناعة، والكهرباء، والنقل والمواصلات، والإسكان.. إلخ.
إن الإرادة لغة هى المشيئة، وأراد الشىء: شاءه، وأحبه. ويقال: أراد الجدار أن ينقض: تهيأ للسقوط. وفى التنزيل العزيز: «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه» (الكهف: ٧٧)، وأراد الرجل فلانا على أمر أى حمله عليه.. والإرادة التى نقصدها هنا هى إرادة: الإصلاح، التغيير، الخروج من الأزمات، البناء، النهوض، المقاومة، الصمود، التحدى، القتال، وهكذا.. وقد تكون الإرادة مرهونة بشخص (رئيس- قيادة- مسؤول)، أو جماعة (شعب- مؤسسة- حزب- جمعية).. وكما أن الوعى مرتبط أساساً بالعقل، فإن الإرادة مرتبطة بالروح.. ويحدد السياق معنى الإرادة، فقد تأتى على سبيل الاستنكار، كما فى قوله تعالى: «وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا»، (البقرة: ٢٦)، أو التخيير، كقوله: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة» (البقرة: ٢٣٣)، أو الاتجاه نحو الشر، كقوله: «فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا» (الإسراء: ١٠٣)، أو تكون نحو الخير، كقوله تعالى: «وما أوتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون». (الروم: ٣٩)، وهكذا..
وتوصف الإرادة بالضعف كما توصف بالقوة، وتعنى الإرادة القوية أو قوة الإرادة: الإصرار والمثابرة والدأب والعزم على القيام بعمل أيا كانت العوائق أو المصاعب..ولاشك أن الأعمال العظيمة والإنجازات الكبرى تحتاج إلى الإرادة القوية، على مستوى كل من الرئيس ومؤسسات الدولة والشعب.. إذ لا تكفى إرادة الرئيس، ولكن لابد من توافر كل الإرادات.. إن الذين يصفون عمر (رضى الله عنه) بالعبقرية، ينسون شيئاً مهماً وهو عبقرية الرعية، وإلا لما قام واحد من عامة الناس ليقول لعمر: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا.. وقد سأل أحدهم (مستنكرا) الإمام على (رضى الله عنه): لم كثرت الفتن فى عهدك، ولم تكن فى عهد عمر؟ فرد عليه الإمام قائلا: لأنى أحكم من هم مثلك، أما عمر فكان يحكم من هم مثلى.. وتحتاج الإرادة القوية ذاتها إلى مجموعة من العوامل، يأتى فى مقدمتها: وضوح الرؤية نحو الهدف المطلوب والإيمان به، وتعشقه، والوفاء له، والتضحية فى سبيله.
والحقيقة أننا نكون أمام إرادتين: إرادتنا نحن كبشر، وإرادة مولانا وخالقنا الذى يحكم الكون كله، وفق نواميس حددها، لا تتغير ولا تتبدل.. فإذا اتفقت إرادتنا البشرية مع إرادته سبحانه، مضت إرادتنا فى تحقيق الهدف المطلوب، وإذا لم تتفق توقفت إرادتنا ومضت إرادة المولى تعالى.. مصداق ذلك قوله تعالى: «وإن يردك بخير فلا راد لفضله» (يونس: ١٠٧)، وقوله: «ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا» (المائدة: ٤١)، وقوله: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. ويأبى الله إلا أن يتم نوره» (التوبة: ٣٢)، وقوله: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون» (الصف: ٨)، وغير ذلك كثير.. إلا أن المولى تعالى لا يخيب رجاء إنسان لجأ إليه، أو شعب أراد أن يعيش حراً عزيزاً كريماً.. ولعلى أستحضر هنا قول «الشابى»، شاعر تونس العظيم، مع تصرف بسيط منى أضعه بين قوسين: إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلا (عجب) أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلى...ولابد للقيد أن ينكسر.
لقد كان لدينا وعى بخطورة الإرهاب على مصر، الشعب والوطن، على الأمن والاستقرار والاقتصاد والاجتماع والثقافة وكل مجالات الحياة.. لكنا لم نكتف بالوعى، وإنما تجاوزناه إلى الإرادة، أقصد إرادة الفعل، فكانت تلك الضربات الموجعة لعناصر الإرهاب، وإلا لتحولت مصر إلى شىء أشبه بليبيا أو اليمن أو العراق أو سوريا.. وإذا قلنا إنه لابد من الوعى بأن الفساد والإرهاب وجهان لعملة واحدة، نقول أيضا إنه لابد من إرادة قوية لمواجهة الفساد بشكل عملى، يتمثل فى تكليف الجهة التى سوف تقوم بذلك، ودعمها وتحفيزها وتحميسها، وإزالة كل العوائق التى تقف فى طريقها، بل ومتابعة أدائها إلى أن تنتهى من مهمتها، ثم عرض ذلك على الرأى العام، وهكذا.
من الواضح أن رئيس الدولة لديه وعى عام بكل ما يجرى على أرض مصر، بل بما يجرى خارج مصر على المستويين الإقليمى والدولى.. وهو أيضا لديه إرادة التغيير، وأن هذه الإرادة تحولت فعلا إلى إنجاز كبير على أرض الواقع عندما وجدت المؤسسة التى تتمتع بروح الانضباط والالتزام الممزوجين بالهمة العالية والعزم القوى، والإيمان الذى لا تخالطه ريبة.. هذا ما ينقصنا فى بقية مؤسسات الدولة.. ولعلى أهمس فى أذن الرئيس بما يعيه ويدركه، لكن من باب «وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (الذاريات: ٥٥)، أقول: إن حتمية وعينا بضرورة إيجاد دولة القانون، ينقصها حتمية إرادة دولة «إنفاذ القانون على الجميع».. إنه من العبث يا سيادة الرئيس أن يكون لدينا فى مصر فصيل عمله الأساسى إنفاذ القانون والسهر على حمايته، ثم يكون هو من يهدره ويخرج عليه، بل يدوسه بقدميه.. هذا يا سيادة الرئيس ليس عملا كارثيا فحسب، لكنه مسمار فى نعش الدولة.