الدين كائن حى لا يقبل التحنيط

أحمد الشهاوي السبت 29-08-2015 21:07

الدين كائنٌ حىٌ مهما مرَّ الزمانُ عليه، متحرِّك وليس ساكنًا، فلماذا يسعى بعضٌ ممَّن دخلوه وآمنوا به أن يُحنِّطُوه ويضعُوه داخل تابوتٍ فى سابع أرضٍ، ويقولوا عن أنفسهم أنهم حُرَّاسُه وأصحابه، ومُلَّاكه، وما دونهم ضالُّون ومُبتدعون وكفرة وزنادقة وخارجون على الدين، ينبغى قتالهم ومحاربتهم أينما وجدوا.

إن الغلو آفة، لا تصلح الأرض إلا باجتثاثها، كى يصح ما فى بطنها أو ما ستُنبته، ولعل الآية 171 من سورة النساء «لَا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ...» لهى خير شاهدٍ على ما أطرحه حول ضرورة التوسُّط والاعتدال فى الدين، وهما سِمَتان لصيقتان بالمسلم- خُصوصًا فى مصر- الذى اعتاد أن يأخذ الأيسر فيما يتعلق بأمور دينه ودنياه، حيث الوسطية تحفظ للمسلمين وحدتهم ودينهم ومكانهم ومكانتهم بين الأمم، ووحدة بلدانهم ولغة قرآنهم خُصُوصًا فى الدول التى تتحدث العربية، كى لا يدخلوا فى نفق مُغلقٍ، لن يؤدِّى إلا إلى الافتراق والتطاحُن والتشاحُن والتباغُض والتقاتُل والتنابُذ.

كما أنها تسمح بالخلاف الذى هو رحمةٌ، وتُنْكِر وتُبغِض الاختلاف الذى يستند إلى تأويلاتٍ مغلُوطة، وأسُسٍ واهية، ونصوصٍ موضُوعة، ومتُونٍ محمُولة على الشُبهات الباطلة، التى من شأنها أن تُضعِف، وتُقَسِّم، وتُقْسِم الظهر.

فما أحوجنا- إذن- إلى أن نعتصم بحبل الله، لا بحبل الطوائف أو الفِرَق، أو الجماعات أو المِلَل أو النِحل أو الإمارات الصغيرة والخلافات المشبُوهة التى دسَّتها كائناتٌ بدت للجميع أنها لا تعرف عن دينها سوى القشُور التى لا تُقيم حياةً ولا مُجتمعًا ولا حتى دولة، أساسها الدين ومرجعها.

ولا يمكن أن يتحقَّق أمر الله ورسوله إلا بتنقية المتُون المُتوارثة عن الأسلاف فى التاريخ الإسلامى من الأكاذيب، وشطحات الخيال الدنيوى المُغرض الملبُوس بالدين، وشطط الهوى، والأقاويل المكذوبة، وهى مبثوثة فى كتبٍ كثيرةٍ، صارت من فرط شهرتها مقدَّسة حتى عبدها العامة والعلماء معًا، لدرجة أن لو مسَّها أحدٌ بنقدٍ أو تأويل أو تفسير أو تحليل اتُهم بالخروج على الدين من الغُلاة والوسطيين معًا، ولن نصل إلى كلمةٍ سَواء إلا إذا عرف الجميع أنه لا قداسة لشيخٍ أو ولى أو فقيهٍ أو مُفْتٍ أوصحابى أو تابع أو خليفة أو إمام أو مُؤرِّخ أو جامعٍ أو راوٍ، وأن المرجعية الأساسية ينبغى أن تكون دوْمًا لما هو مُقدَّس كالله سبحانه وتعالى ورسوله، صلى الله عليه وسَّلم، أى القرآن والسُنَّة، مع تنقية الأخيرة مما شابها وعَلِقَ بها من أحاديث مكذوبة ومغلُوطة لا يمكن للعقل الإنسانى- الذى خلقه الله- أن يستوعبها، زياداتٍ موضُوعة ينبغى لها أن تُستأصل لأنها تضرُّ أكثر مما تنفع، كما أنها مُضافة على النبى، وليست قيمةً مضافة بحكم كونها وُضعت لسببٍ ما أو لغرضٍ ما، غالبا ما كان لصالح طائفةٍ أو فرقة أو خليفة، أى تلبيس الدينى بالسياسى العارض والدنيوى.

إن تجار الدين من الضَّالين هم أول من يتربصُون بالدين، أكثر من أعداء الدين أنفسهم، لأنهم يُفتُون بغير علم، وعاجزون عن التفسير الصحيح، حتى صاروا وقُود الفتنة التى تعصف بالبلاد والعباد، وأصبح المشهد العام الظاهر للغريب والقريب معًا، كأنه ليس للمسلمين كتابٌ واحد، وإلهٌ واحد، ورسولٌ واحد، ودينٌ واحد «وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ » (163). سورة البقرة، ومثلى عندما يطالع أفعال أهل داعش، وشعب السلفيين، ومن دار فى فلكهم، يشعر أنه غريبٌ على ما يعتقدون، لأن مسلكهم لا ينتمى بأى حال من الأحوال إلى الدين، الذى أُومن وأعتقد، إذْ هم- فى الحقيقة- أبناء غرضٍ ومرض، وليسوا أبناء دين.

وإذا كنت أتحدث عن كائناتٍ غريبة الهيئة وعجيبة العقل، ظهرت فى مصر والعراق وسوريا وليبيا بشكل أساسى فى البلدان العربية، فهناك مثيلٌ لها فى قد ظهر أيضا فى عدد من الدول الأفريقية وعلى رأسها مالى ونيجيريا والكاميرون، أى أن المُبتدعين يمدُّون حبالهم فى كل الأنحاء، لأسلمة العالم، وفرض «إسلامهم» بقوة الذبح، وهتك الأعراض، وحرق الأرض، ليحاربوا الله فى صورة الذين صوَّرهم من المسلمين المسالمين، أو من كانوا على مذهب أو دين آخر، يعيشون كجزء أساسى لا ينفصم، ولا ينفصل عن مجتمعهم، لكنهم يظلون أقلية فى دولٍ الأغلبية فيها يدينون بالإسلام.

والغريب فى الأمر، ومن واقع التجارب المريرة- ومنها سنة حُكم الإخوان لمصر- أنَّ تجَّار الدين ليسوا أصحاب فكرٍ سياسى، أو فكر إسلامى، ولذا أنا مع كشف زيف هؤلاء، وتفنيد أطروحاتهم- إذا كان لهم أطروحات- التى يزعمون أنها الحق المبين، والحقيقة المطلقة، واليقين الكامل، إذْ أنَّ كل دخيلٍ على الدين مصيرُه الزوال، ومآله الحذف، وينبغى مقاومته ومواجهته ومحاربته بالحجَّة والفكر، حتى يؤمن العامة جميعًا أن هؤلاء خوارج، والدين الذى يريدون نصرته، هو دين المصلحة، وكرسى السلطان، والاستيلاء على بيت المال، وربَّات الجمال (زواجًا وسبيًا وما ملكت أيمانهم)، ولا يضطلع بهذه المهمة إلا العلماء العالمون «وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ» الآية 43 من سورة العنكبوت.

ولكن ما أخشاه- وهو موجودٌ بالفعل- أن يجد المرء إخوةً له فى الغُلو والتشدُّد والتعسُّف، ولى عنق الدين، يعملون فى المؤسسات الدينية المعتدلة، ولذا فهم يصبُّون الماء على الزيت، أى أن ما كان وسطيًّا ومُعتدلا فى السابق، لم يعد كذلك، إذ تغيَّر بفعل الاستقطاب، وغسل الأدمغة، وغلبة المصالح الصغيرة على مصلحة الدين الحنيف.

وفى هذه المحنة التى حلَّت بالمسلمين، أنا مع أن نفعل، لا أن ننفعل، وأن يكون المُواجِه رجلا لا مُرتجلا، لأن الله لن يجمع هذه الأمة على ضلالةٍ أبدًا، حيث إن المسلم لا يضل، رغم شيوع الفتن، وانتشار أسماء الفرق والجماعات الضالة المُكفِّرة التى ترى نفسها ممثلة للدين، خصوصًا أهل السنة، مما أوصلنا إلى نوع جديد من الحروب، تتصارع فيها العقيدة، ويتقاتل فيها الدين، ومن هنا نستذكر وصف جورج بوش «الابن» الإسلام بالفاشية، عندما قال «الفاشية الإسلامية»، رغم أنه ومن كتبوا له الخطاب يدركون أن الإسلام أو أى دين ليس فاشيا، وإنما هناك فاشيون موجودون فى كل دين.

ahmad_shahawy@hotmail.com