كتب : علاء بسيوني
المتأمل للمشهد الحالى لبلدنا العزيز مصر وما يمر به من تحديات جسام، لابد أن يلحظ حالة من الخلط فى المفاهيم التى تحكم العمل الإعلامى وتعاطيه مع قضايا الوطن، وكذا نظرة الكثيرين لماهية الدور الإعلامى، فالوسط الإعلامى بشقيه القومى والخاص يعانى من أزمات عدة، كما أن عظم التحديات الوطنية يمثل أزمة فى حد ذاتها وتحتاج لإعلام أزمة: أى إعلام قادر على إدارة أزمة لا إعلام يخلق أزمة أو إعلام يعانى هو من أزمة.. بل أزمات! فإحدى أزمات الإعلام الخاص أن أغلب مَن يعملون فيه يتبنون فكرة أن مدخولاتهم المادية (أكل عيشهم) مرتبط بكم الإثارة والسخونة والتوابل الإعلامية التى يضيفونها على أحداث هى متفجرة بطبيعتها أو تصريح غير موفق لوزير ما، ومنهم مَن «يركب الهوا» بتحضير الجن والعفاريت! أو المتاجرة أحيانا بمشاكل بسطاء الناس، وهى للأسف جمة وكثيرة، فشريحة كبيرة من أهلنا الطيبين يعانون شظف العيش والبطالة وتدنى الخدمات، فى ظل غياب رؤية واضحة لسنوات طويلة مضت لتطبيق النظريات الحديثة لإدارة الموارد البشرية وتحقيق تنمية مستدامة ملموسة تحول هذه الطاقات العاطلة والمعطلة إلى ركائز انطلاقة اقتصادية لمصر، فيتحول هؤلاء لدافعى ضرائب، ويصبح مستحق الزكاة مخرجا للزكاة.
إحدى أهم أزمات الإعلام الخاص كذلك حاليا هى بدء انحسار المال السياسى الذى كان يضخ فى سوق الإعلام، مع انخفاض مستوى الإعلانات، تأثرا بما يجرى، ولعلكم لاحظتم لجوء البعض لمهاجمة الرئيس، مظنة أن ذلك يرفع سقف النقد، متجاوزا الخطوط الحمراء، لاستعادة نسب المشاهدة المفقودة، متناسين أن الرئيس له رصيد شعبى كبير لن يرضى عن تلك المحاولات، كما أن أغلب المشاهدين ملوا من وصلة التنظير طويلة التيلة التى «يستفرد» بها المذيع بأذن المشاهدين، شارحا ومحللا ومهللا تارة، ومزمجرا ومتوعدا تارة أخرى! حتى انصرفت شريحة كبيرة من المشاهدين عن متابعة البرامج السياسية، ولجأت عدة قنوات لإنتاج برامج منوعات خفيفة، علَّها تعوض نسب المشاهدة.
ويدعم تحليلى هذا أن تلك القنوات صالت وجالت فى فترة حكم الإخوان، التى شهدت مصر فيها حالة من الاستقطاب الحاد والصراع العنيف، مع غياب الرؤية الاستراتيجية، مع عدم وجود خبرة فى إدارة مفاصل الدولة نتجت عنه كوارث ومواقف وطرائف (تذكر أخى القارئ الأسئلة السخنة.. وإبقى تعالى وأنا أقولك.. وصولا لمؤتمر محطة المطار السرى، وهو الاسم الشفرى الذى أطلقته مواقع التواصل الاجتماعى الساخرة على المؤتمر «السرى» الذى عقدته الرئاسة آنذاك لتدمير سد النهضة بالبمب والشماريخ، وإمعانا فى التمويه والسرية، تمت إذاعة المؤتمر على الهواء مباشرة!)
كل ذلك وغيره الكثير أدى إلى تفاقم حالة السخط الشعبى التى تنامت حتى بلغت ذروتها فى ثورة 6/30، وهى الحالة التى شاركت فيها قنوات القطاع الخاص تلك بنصيب وافر، مسقطة حكم الإخوان، ثم داعمة لترشح السيسى رئيسا للجمهورية، ويبدو أنها تريد أن تظل تُذَكِّر الرئيس بذلك الدور، حفاظا على مصالح سياسية اقتصادية، وهذه القنوات جزء كبير من أزمتها إحساسها بأن انقلاب خطابها الإعلامى- وإن ارتدى ثوب النقد البناء- على الرئيس والرئاسة سيبدو فى نظر المشاهدين تحولا جديدا، وسيعود تصنيف هؤلاء الإعلاميين على أنهم من المتلونين (ليس نسبة للتليفزيون الملون!).
أما عن أزمة إعلام الدولة، فحَدِّث ولا حرج، فالملفات كثيرة بداية من معامل المرونة الذى يتمتع به ماسبيرو ليتحول من إعلام الحزب كما كان إلى إعلام الشعب.. إعلام الدولة، إعلام تنموى معنى بقضايا الوطن ينتج تنويرا وتوعية وشحذا للهمم، ومحارب للسلبيات والأفكار المتطرفة.. إعلام يستغل الطاقة الهائلة للقوى الناعمة المصرية من ثقافة وفنون هادفة لتعود قيمنا ولهجتنا المصرية لتزين الشاشات العربية.. إعلام يتفاعل مع اللغة الجديدة للشباب وقضاياهم ويساهم فى تفعيل إفراز صفين ثان وثالث من شبابنا النابه. إن النظرة إلى إعلام الدولة يجب أن تتغير.. فلا يُحكم عليه بمقياس الربحية فقط، فالواقع يقول إنه إعلام خدمة عامة Public service يجب أن يُعامَل كأمن قومى مثل التعليم والدفاع والصحة، يُنفق عليه، وهذا ليس مبررا لإنتاج أعمال فاشلة خاسرة، فماسبيرو بما لديه من مقومات، مع حسن إدارة الموارد وهيكلة حقيقية- (الكل يتحدث عنها ولا أحد يعلم ملامحها!)- يمكن أن يحقق الطفرة المرجوة. هذا وقد زادت النظرة المتشائمة لماسبيرو، بعد أن ألقت حادثة إظلام شاشات إعلام الدولة مؤخرا بظلالها على المشهد.. ورغم أننا كبرامجيين نعلم أن هناك خططا هندسية للطوارئ وخطوط طوارئ إلا أننى لن أدلى بدلوى مادام الأمر حُوِّل للنيابة لتحديد أوجه القصور. ولكن الرأى الذى أتبناه أن الإظلام الحقيقى لماسبيرو ليس فى قطع الكهرباء مؤخرا، ولكنه بدأ منذ سنوات عديدة بإظلام معنوى من بيروقراطية ولوائح مقيدة جامدة وغياب المعايير الصائبة لاختيار القيادات، مما شكل تربة غير صالحة للإبداع، تسببت فى هجرة جماعية لنجوم ماسبيرو من المذيعين وحتى الفنيين إلى قنوات القطاع الخاص ذات الدخل الأعلى وظروف العمل الأفضل الخالية من الروتين، والتى تستعين بالمتميزين فقط، وغير محملة بأعداد ضخمة زائدة، ولا توجد بها خلايا نائمة أو شخصيات باعت نفسها على حساب الوطن فى فترة الإخوان، حتى احتل واحد من هؤلاء أكبر منصبين فى ماسبيرو فى وقت واحد! ولولا ثورة 6/30 لكان استمر فى تدمير المبنى العريق. والعجيب أنه خرج إلى المعاش معززا مكرما دون حساب، رغم دوره فى خروج سيارات الإذاعة الخارجية إلى رابعة والنهضة! وفى وسط كل هذا الزخم، ألاحظ أن الجميع يتحدث عن التمويل والأجور، ولا يهتمون كثيرا بالمحتوى الإعلامى والرسالة وعوامل الجذب والتميز، وينصب التفكير على بيع أصول ماسبيرو، لسداد الديون دون التفكير فى «تعويم» ماسبيرو تمويليا، لينتج مادة منافسة تسويقيا تدر دخلا يقوم بسداد الديون دون أن يخسر ماسبيرو عائد بيع أصوله!
هل الصورة قاتمة؟ بالعكس، فبالرغم من أن مصر تعيش مرحلة حاسمة تحيطها التحديات داخليا وخارجيا، وهذه الظروف تشكل أزمة فى حد ذاتها، إلا أن لديها رئيسا وطنيا يعشقها حتى النخاع، له رؤية استراتيجية، ويتعامل مع التحديات بأسلوب إدارة الأزمات، وهو ما نحتاج تطبيقه فى أزمة الإعلام، وصولا لخطوات ميثاق الشرف الإعلامى ونقابة الإعلاميين والمجلس الأعلى للصحافة والإعلام، وتتبقى ثورة حقيقية فى ماسبيرو بأفكار خارج الصندوق، وهى متوفرة لدى الكفاءات والموهوبين من جيل الكبار وجيل الوسط، ولكنهم للأسف يحارَبون من حزب أعداء النجاح! هذا الجيل لديه من الطموح والأمل الكثير ليستعيد ماسبيرو دوره ورونقه، لخروج إعلام جديد تنموى جاذب منافس بنجومه ومادته الإعلامية دون أن تتكلف الدولة أى أعباء إضافية، ونضع هذه الخطة تحت تصرف مؤسسة الرئاسة لعلها تساهم فى صناعة الأمل.. والله من وراء القصد.. تحيا مصر.
* نائب رئيس التليفزيون المصرى