العدالة الناجزة

حسن حنفي الأربعاء 26-08-2015 21:31

تحدث الفلاسفة عن أوجه عديدة للعدالة، العدالة المطلقة التى هى مثل أعلى للإنسانية، والعدالة الجديدة، وهى نوع من العدالة تجمع بين الرأسمالية والاشتراكية، بين حرية الفرد وحق الجماعة جمعاً بين الاشتراكية والرأسمالية نظراً لأزمة النظامين، والعدالة الطبقية، وهى عدالة توزيع بين الطبقات فى المجتمع الواحد، حيث يظل الفقير فقيراً والغنى غنياً، وذلك لصالح الطبقة المتوسطة التى تحافظ على النظام. و«العدالة الناجزة» هو تعبير جديد غير شائع. فالعدالة إما قائمة أو غير قائمة. إما يحكمها قانون أو لا يحكمها قانون. وإذا كان المقصود سرعة الإجراءات فهى قد تناقض العدالة مثل الحكم بالإعدام على بعض الحالات ومنهم غائبون. ومنهم من هو فى السجن مسبقاً. ومن الحالات من لم يكن فيها شهود نفى أو إثبات. ومنها ما يعلم مسبقاً أن المفتى سيرفضها لأن الحكم بالإعدام يتطلب شروطاً كثيرة غير متوافرة فى مثل هذه الحالات. فإذا قدمت الحالة إلى القضاء العسكرى فيستحيل النقض. هو حكم واحد نهائى لأنه أحد نماذج العدالة الناجزة. وهو اتهام ضمنى لإجراءات القضاء بالبطء أو التباطؤ بل الموالاة مع المتهم بحثاً عن مزيد من الأدلة. وأدلة الدفاع لا تتوقف. والبحث عنها مستمر

والواقع أن التعبير هو رد فعل على ما يحدث من مآسٍ فى البلاد، ولم تستطع الشرطة ولا الجيش ولا القضاء حماية البلاد منه. فهو يعكس رد الفعل على الفشل الأمنى. فالدولة، بكل ما لها من سلطان، قادرة على حماية أمنها بواسطة إجراءات أمنية. إنما العيب فى بطء الإجراءات القضائية التى تجعل المتهم طامعاً فى مزيد من العدوان. والتعبير يعبر عن حالة نفسية من اليأس من الدفاع الأمنى عند الشعب. هو رد فعل لتعويض ضعف الإجراءات الأمنية، ثقافة قوتها الكلام. «العدالة» هو ما يشعر أهل الفقيد بالحاجة إليه، و«الناجزة» أى السريعة بلغة الانتقام طبقاً للمثل الشعبى «من قتل يُقتل ولو بعد حين». الناجزة تعنى السريعة دون تفكير. وما العمل لو تعارضت السرعة مع العدل؟ العدل يقتضى الأحراز والشهود. والعدل الذى يشفى الغليل يحتاج إلى سرعة الأخذ بالثأر، وإشفاء الغليل أكثر من تطبيق القانون. والعدل ليس أخذاً بالثأر بل تطبيقاً للقانون الذى هو تعبير عن العدل لأنه موضوع من مفكرى الأمم والشعوب وإنتاج الحكماء. هو قانون عقلى وضعى لا شك فيه. وهو قانون طبيعى ترقى إليه العقول.

صحيح أن الشعب غاضب للمعيار المزدوج بين الرئيسين المخلوعين السابقين. الأول بمجرد إعلان إدانته. وقد تكون النية مسبقة على تنفيذ حكم الإعدام فى واحد دون الآخر، والحديث عن جرائم واحد دون الآخر. والنظام الذى كان قائماً برجاله وإعلامه وأهدافه مازال قائماً. ولقد تم عقد محكمة الثورة بعد 1952 لرؤساء الأحزاب السابقين وباشوات وحكام مصر فى عدة أسابيع. وكان المد الثورى فى الجيش والشعب وراءها. أما الآن فتتعدد المستويات. فتتباطأ العدالة للبعض، وتسرع فى البعض الآخر على عكس ما يشعر به الناس. فمعظم رجالات النظام السابق أطلق سراحهم. ومعظم رجالات النظام الآخر بعد الثورة مازالوا فى السجون أو تطول محاكماتهم.

إن العدالة الناجزة بالقانون أفضل منها خارج القانون. والقانون العادل أضمن من عدالة لا تستند إلى قانون يُكيف طبقاً لها. وتبرئة مظلوم من سرعة العدالة الناجزة خير من إدانته. والخوف هو سوء استعمال العدالة الناجزة فى القضاء على المعارضة السياسية وتحويلها أداة لتبرير حكم الفرد المطلق بدعوى سرعة الإنجاز، وحماية البلاد مما يحيط بها، فوقها وتحتها من مخاطر. ولن توقف العدالة الناجزة العنف وسفك الدماء، بل تزيد من عنف الدولة ضد خصومها، وتزيد عنف الخصوم ضد الدولة ورموزها. ولن تتوقف الثقافة السياسية عن إطلاق مثل هذه المفاهيم، فى ظاهرها خير وفى باطنها كل الشرور. ويسرع المثقفون بالمساهمة فى إبداع مثل هذه المفاهيم. فهم أدرى بمصطلحات الخطاب السياسى وبحاجات البلاد. ومازال النظام يبحث عن دعاة، دينيين ومدنيين، يستند إليهم فى شرعيته. وهم على استعداد لذلك. بل ولكل نظام يحتاج إلى شرعية.

وبدلاً من تعدد أنواع العدالة حتى الوصول إلى العدالة الناجزة التى يقصد منها تخويف المعارضة يمكن اللجوء إلى «العدالة الثورية» بنت ثورة يناير 2011. تستمد شرعيتها من ذاتها. ولا أحد يستطيع أن يعيب عليها أنها ضد القانون. فالثورة قانون جديد يجُب القانون القديم بدلاً من نقد الثورة بأنها بلا قيادة، وبلا أيديولوجيا، وبلا تنظيم ثورى يحفظ لها جسدها. تجمع العدالة الثورية بين العدل والقانون وسرعة الإنجاز. ولا تحتاج إلى مبرر جديد لإنجازها. وبالتالى يمكن العودة إلى جذور ثورة يناير 2011 بدلاً من تموجات مسارها بين عسكرى ودينى. ومازالت الثورة المدنية الشعبية بعيدة المنال. وبقدر ما تعود إلى الجذور تنطلق إلى المستقبل فى اطمئنان دون تهديد من القوى المنظمة من قبل للنظم القديمة، للفلول بكل أشكالها. وإذا كانت العدالة الناجزة موجهة من الحكومة إلى المعارضة فإن المعارضة الثورية ليست ضد أحد إلا القوى الرجعية بكافة أشكالها. ولا تعارض بين الإنجاز والقانون. فإنجاز القانون لا يعنى خرقه. ولا تعارض بين الإنجاز والعدالة. فالعدالة تحتوى على وسائل إنجازها فى ذاتها. والأمن النفسى يتطلب التوافق بين العدالة والقانون والإنجاز. لا تطلق العدالة الناجزة فى مواكب الموت وخطب العزاء بل فى مواكب الحياة وسرادقات الأفراح. وليست رد فعل على حدث بل هى فعل لتصحيح أوضاع الظلم التى يوجد فيها الناس. ولا فرق بين شهداء النيل فى العبارات والصنادل الغارقة وشهداء الكمائن فى سيناء. فكلاهما دم الأبرياء. ولا فرق بين شهداء حوادث المرور وانهيار المنازل وبين الجند شهداء سيناء. فكلهم مصريون أبرياء فى حاجة إلى أكثر من عدالة ناجزة بل إلى عدالة اجتماعية وراحة نفسية لها. فالأمن وحده لا يوفر العدالة. والإنجاز وحده لا يوفر العدل. يحتاج المواطن أن يشعر أنه يعيش فى ثورة حققت له مبادئها الأربعة وإلا فالعدالة الثورية قادمة عندما تنطلق من الصدور. ويتحول الخطاب من مستوى القول إلى مستوى الفعل. فالمفاهيم وحدها لا تنشئ خطاباً. والخطاب وحده لا يقيم فعلاً. إن المفاهيم الجديدة والتعبيرات مثل العدالة الناجزة لا تحدث حراكاً اجتماعياً ولا تقيم ثورة. وإذا استرعت الانتباه فإن ذلك يكون وقتياً لا ديمومة له، بل تشارك هذه التعبيرات الجديدة فى تغطية المواقف وتعمية الحقوق إذ يضيع الجهد فى البحث عن معناها ومصادرها والهدف منها ويضيع مضمونها وكيفية إنجازها. وتجتمع هذه التعبيرات والشروح والتعليقات عليها فى خطاب يصبح هو البديل عن واقع الظلم الاجتماعى الذى يحتاج إلى مصطلحات وشروح أقل، وواقع أوضح وخروج فعل مكبوت يكون هو معنى الكلام.