كان جالساً أمامى بنظارته السميكة يحدثنى عن الزمن الجديد ونزول الأيديولوجيا عن عرشها، وكأن كيفين كوستنر كان معنا، فقد صور المخرج الأمريكي روح المشهد في نهاية فيلمه الأشهر «رقصات مع الذئاب» حيث يجلس الهندى العجوز على قمة جليدية شاهقة البياض متدثراً بالفراء والحكمة على يقين من المصير المأساوى الذي يحمله القادمون البيض لقبائل الهنود الحمر.
كيف يلتقى في هدوء شبح النهايات وضوء السكينة؟
كيف يتصالح المضرب مع الكرة؟
قال بهاء الدين: لا تسأل، فقد تغيرت الأسئلة، وتعطلت الإجابات، لم يحدثنى عن «اختلاط الحابل بالنابل»، وزمن «السداح مداح» وعن أولئك الذين تبجحوا دون خجل من تاريخ أو أخلاق فمنعوا مقاله اليومى في الأهرام «يوميات»، ولم يقل لى إنه بكى أو غضب أو اشتكى، كل ما فعله أنه أرسل المقال نفسه في اليوم التالى فلم ينشر، فأرسله دون تغيير في اليوم الثالث فلم ينشر فأعاد إرساله.. وهكذا لأكثر من عشرة أيام. طبعا لم يستطع أن ينشره لأن مافيا الفساد الإعلامى لا تملك حياء ولا تعرف الخجل، لذلك لم يراهن بهاء على أخلاقها، لقد فكر صاحب «أيام لها تاريخ» في قوة التاريخ فسجل موقفه، وأوصل مضمون مقاله من دون حبر وطباعة، وكشف جانباً من العلاقات الغامضة بين رجال المال وغيلان الصحافة.
(للتذكرة كان المقال الممنوع ينتقد حينئذ ظاهرة الشيخ الفاسى، وتوغله في أوساط الإعلام والبيزنس)
أذكر جيدا أن لقائى الأخير مع أحمد بهاء الدين كان قبل شهور من مرضه الطويل ذى الدلالات الرمزية التي تليق بأبطال الملاحم والروايات، لم يقل لى يومها كل ما تخيلت أننى سوف أسمعه منه، ولم أقل له كل ما أحببت أن أسمعه له.
لم أقل له إننى لم أكن أحبه لارتباطه فترة بالسادات، ولم تشفع له عندى افتتاحيات مجلة «العربى» الكويتية ولا مؤلفاته القديمة «فاروق ملكا»، و«أيام لها تاريخ» ولا سيرته الناصعة، ولا نبوغه الصحافى المبكر.
لم أقل له إنه استطاع في سنواته الأخيرة أن يتسرب إلى قلبى ويكتب اسمه في العقل والوجدان، ولم أقل له إن لكتابه الجميل «محاوراتى مع السادات» دورا كبيرا في هذا التحول العاطفى
والأهم أننى لم أقل له إننى أطلقت اسمه على ابنى الوحيد حباً فيه وفى صلاح جاهين «أبوبهاء»، وإمساكا بإشراقة جديدة في زمن التيه والعماء.
19 سنة مرت على رحيل بهاء الدين، و25 سنة على ميلاد بهاء الدنيا والدين
(يقول المختصون في الألقاب الإسلامية إن لفظ «الدنيا» إذا أضيف للقب السلطان فإنه يشير إلى وجوده على قيد الحياة)
غاب الأستاذ، وكبر الابن
الطفل الذي كنت أُكمل طفولتى معه، صار مخرجا مهموما بتغيير أقدار السينما في مصر، يحمل أعباء وأحلاما أكبر من عمره، وتحديات أكثر من مجرد عمل.
الطفل الصغير الذي ولد وسط الكتب وأوراق الصحف بحكم عمل والديه صار يعانى من ضيق الوقت، ويشعر بالتوتر تجاه مستقبل بلد تنفس حبه مع أول شهيق.
الطفل الذي كان يسهر معى لنصنع جداريات من الصور في حب مصر، نملأ بها غرفته.
الطفل الذي كان مغرما بشخصيات ديزنى الكرتونية، وحريصا على مواعيد تمرين التنس والسباحة، ومهتما بجمع العملات القديمة، وصور البوكيمون، و«البلاى ستيشن»، و«كوبونات» المسابقات والأطعمة الجاهزة، ذلك الطفل لم يعد يضحك كثيرا كما كان، ولم يعد يهتم بالرياضة كما كان، لم تعد غرفته مزينة كما كانت. يحتفظ على جدرانها بسماعات سوداء لا يرفع صوتها أبدا، وعبوات فارغة لقنابل غاز مسيل للدموع، وتذكارات متنوعة من مظاهرات الغضب التي حاصرته في الإسكندرية بعد قطع الاتصالات وفرض حظر التجوال، لم يتخلص من تاريخه القديم، لكنه احتفظ به في خزانات مغلقة على امتداد شرفة غرفته، ويغضب لو انتقد أحد ذلك الركام الذي يشغل حيزا كبيرا في المكتبة، ويؤكد أنه يحلم بيوم يستطيع أن يستخدم فيه هذه الذكريات في فيلم طويل.
إنه يعتبر كل هذه الألعاب والشخصيات كائنات حية، تكلم معها، وتكلمت معه، وبينهما ذكريات لا نشعر بها، كما يشعر هو.
هكذا ينتهى كل نقاش مع بهاء بانتصاره، من دون أن يرفع صوته، أو يتعصب، إنه فقط يعرف ما يريد، وليس لديه استعداد للتنازل عنه، يدهشنى باحترامه للتقاليد وتفاعله الجميل مع الحياة.
بهاء الابن ينشغل الآن بفيلمه الجديد عن القاهرة.. المدينة التي رفض أن يتركها للدراسة في الخارج، والتى يعرف عيوبها قبل مزاياها، لكنه يعتبر كل هذه العيوب مجرد «إيقاع مدينة» حسب تعبيره، لذلك لا أخجل أبدا وأنا أردد عبارتى التي كتبتها أكثر من مرة: «بهاء الدين الابن يعلمنى أكثر مما علمنى بهاء الدين الأستاذ»
لهذا لا أتسرع في انتقاده، ولا استسهل توجيه النصائح المجمدة، وأعترف حبا وإعجابا بأنه دوما يمنحنى فرصة للتجدد، وتذوق ما يحدث في العالم من حولى، لم أعد أتمسك بالمقاييس القديمة لإدانة الظواهر الجديدة لمجرد اختلافها عن أنماط الحياة في جيلى، أحب موسيقاه وذوقه الغنائى وثقافته السينمائية الخاصة جدا، وتعلمت من خلاله كيف أتيح للآخرين فرصا للتعبير.. وهذه الفرص في حقيقتها تعلمنا نحن، وتفتح أمامنا آفاقا جديدة لم نكن لنرتادها، ربما بحكم الشيخوخة أو التعالى.
رحل بهاء الدين الأستاذ عند قمة الهزيمة وسط الثلوج التي حنطت جيلاً بأكمله، مازلت أتذكر كلماته في آخر حوار بيننا، فأتذكر الهندى العجوز، وهو ينصح الكولونيل جون دانبر بالرحيل، بعد أن نضج وفهم وصار هنديا بالوعى يحمل اسما جديدا هو «الراقص مع الذئاب»، حدثنى بهاء الدين عن انهيار اليقين، وأن التحدى الذي يواجه الأجيال الجديدة في مصر، ليس الدفاع عن ثورة يوليو، بل صناعة قدر جديد بمفاهيم جديدة لم تتشكل بعد، كان حزينا كأنه يقرأ الماسأة من كتاب القدر، ويدرك أنه لا فكاك من المأزق القادم.
هكذا أيضا تحدث «الدببة العشرة» شيخ قبيلة السو، مودعا الراقص مع الذئاب: «ارحل واصنع حياة جديدة، فالرجل الأبيض لم يأت إلى هذه الأرض ليطاردك بشخصك، أو بغرض الانتقام الفردى.. إنهم قادمون ليصنعوا تاريخا جديداً لهم، وهذا زمانهم، فانطلق أنت أيضا واصنع مصيرك بنفسك».
كانت صورة الحكيم الهندى العجوز واضحة في المشهد قابعا في انتظار مصير يعرفه، ويعرف أنه ليس في صالحه ولا في صالح شعبه، فيما يخرج الوافد الجديد من المشهد لينطلق في المجهول على حصان وحيد يحمله مع حبيبته وقليل من الزاد والماء والأمل في مصير لا يتماهى مع مصير الجيل المهزوم، فيما يصعد الهندى الشاب «الريح في شعره» فوق قمة عالية ويصرخ في الفضاء المفتوح، معلنا بأعلى صوته أنه لن ينسى الراقص مع الذئاب، وسيبقى إلى الأبد صديقه المخلص.
كل سنة وأنت طيب يا بهاء الدنيا والدين.. آملا أن ينجح جيلك المغضوب عليه فيما فشلت فيه أجيال الأجداد.
لجيلك أهدي ما تبقى لدي من ورد وأمل، والفاتحة للأموات العظام.
إضاءة:
«أنصتوا جيداً يا شباب انتهزوا العشرينات من أعماركم فهى لا تأتى مرتين»
(من أغنية «جان المسكين» لإديث بياف- كلمات الموسيقار الفرنسى رينيه روزو)
جمال الجمل
tamahi@hotmail.com