الطائر الذى كفّ عن الغناء

أيمن الجندي الأحد 23-08-2015 21:36

لم يكن يذكر نشأته الأولى فى محل بيع الطيور الملونة. كان صغيرا جدا حينما دخلت سيدة مصبوغة الشعر واختارته بالذات. ما أغرب الأشياء التى تحدد مصيرنا فى الحياة! لون الأريكة الأخضر، والمتناسق مع ريشه هو الذى جعلها تشتريه! وبالطبع نصحها البائع أن تبتاع معه أنثى وإلا اكتئب ومات!

كان صغيرا وبريئا ومفعما بحب الحياة. هكذا استقبل الطائر حياته الواعدة. وكان لا يكف عن الثرثرة! وقد حاز على اهتمام «مدام ماجى» لعدة أيام قبل أن يتحول اهتمامها إلى شىء آخر، فأمرت الخادمة أن تضعه فى الشرفة.

حتى ذلك الحين لم يكن الطائر يعرف أنه سجين. أو أنه يستطيع الطيران! كان بالطبع يرفرف بجناحه مثلما يفعل أى طائر بالفطرة! لكن أن يحمله الهواء ويرتفع، فهذه أشياء لم تكن تخطر له على بال. هو لم يكن يدقق كثيرا فيما يراه. وهذه المساحة الزرقاء، التى تُدعى السماء، لم تكن تختلف فى مغزاها عن لون الأريكة الأخضر، مجرد أشياء غامضة! وحتى الخادمة الصغيرة التى لم تكن أكثر من طفلة، وتحمل الطعام إليه يوميا، فإنه لم يشاهدها بحجمها الكامل أبدا. وهكذا كان تصوره عن الوجود محدودا وناقصا.

علاقته بأنثاه كانت جيدة. وكثيرا ما راح يداعبها بمنقاره ويثرثر طويلا ويرفرف فى القفص وكأنما يؤكد كلامه! وكانت أنثاه تتقبل غزله فى صمت، إذ كانت- بعكس الإناث تماما- صموتة وهادئة ولا تشاركه الحماس للحياة.

كان ممكنا للأمور أن تمضى على هذا النحو، لولا تلك السماء المكدسة بالغيوم والهواء المشحون بالكهرباء الاستاتيكية، والتى أثارت انزعاج الطيور فراحت تطير فرادى وجماعات. واحدة منها، أنثى برية، أنثى بحق، هبطت على سور الشرفة أمام القفص بالذات، وجهها فى وجهه، عيناها فى عينيه، وراحت تتأمله فى فضول.

هذه الأنثى كانت جميلة جدا. قوية وعفيّة وحقيقية تماما، لم ينهكها تتابع الأجيال فى الأسر مثله ومثل أنثاه. فى هذه اللحظة نسى أنثاه تماما، ولأول مرة يعرف أن القفص سجن، ولأول مرة يتابع امتداد القطعة الزرقاء فيجدها شاسعة تصلح لتحريك الجناح!

طارت العصفورة بعد أن أشبعت فضولها، ولم تدر أنها بددت سكينته بالكامل، وحتى حينما هب الهواء فتأرجح القفص فإنه لم يشعر بالذعر مثل أنثاه التى انكمشت فى جانب، وإنما راح يتسلق جوانب القفص ويتحدث بشكل محموم.

عند منتصف الليل هبت رياح قوية أطاحت بالقفص على الأرض، وانفتح باب القفص أمامه. لم يكن هنالك أحد ليمنعه من مغادرة السجن. سار فى تهيب حتى غادر باب القفص. كان الليل دامسا وخاليا من النجوم. والهواء يهب بشدة. رفرف بجناحيه فوقف على السور وراح يرمق ثوب السماء الأسود فى غموض. ثم تذكر وليفته فوجدها تنظر منكمشة. بدت له حزينة ومنكسرة وتحمل تاريخه كله. لم تحاول أن تناشده. هى من الأصل قليلة الكلام.

كان عليه أن يتخذ أخطر قرار فى حياته. الغموض والسواد والحرية؟ أم الأنثى والطعام والسجن؟ أو لعله القفص! كان يستطيع تأجيل القرار حتى الصباح ولكنه لم يفعل. حشر نفسه فى الباب الضيق والتصق بأنثاه.

جاءت البنت الخادمة فى موعدها الصباحى. أطلقت صيحة تعجّب حين شاهدت القفص واقعا على الأرض. حملته إلى مكانه وأغلقت بابه ووضعت الطعام المعتاد. نظر الطائر إلى أنثاه فوجدها ضامرة ذابلة منعزلة، ومنذ ذلك اليوم كفّ تماما عن الغناء.

elguindy62@hotmail.com