عن الصحوة الإسلامية والنفعية الوثنية

عمرو الزنط الجمعة 21-08-2015 20:52

لقد تم ذبح خبير الآثار السورى خالد الأسعد فى بلدة تدمر على يد «الدولة الإسلامية». التقارير تضاربت، بعضها أكد أنه ذُبح فى ميدان عام، ثم تم «تعليقه» على أعمدة الإنارة، وأخرى تؤكد أنهم «ربطوه» فى عمود من أعمدة المعبد التاريخى الذى اتصل اسمه به.. أيا كان، فعند قراءة الخبر، ترددت فى ذهنى كلمة كالصدى، الرنين الموحى بمعنى باطن ربما يناسب شدة الألم.. تذكرتها من إطار الفيلم المروع للمخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا: «القيامة الآن»، أتذكرها الآن تتردد على لسان مارلون براندو: «الفزع.. الفزع».. لكن الفزع من ماذا؟

الكلمة تكررت فى فيلم حكى هول حرب فيتنام. الحرب فى فيتنام كانت مفزعة ومرعبة فعلا- بالنسبة للأمريكيين وبالذات لسكان البلاد- لكنها كانت حربا أديرت من قِبَل دولة ومجتمع اتسما بالحد الأدنى من الحس الأخلاقى، مجتمع أوقف بالفعل عمليات الدمار الشامل ضد شعب ريفى أضعف منه بفضل وجود قطاعات واسعة فى المجتمع الصناعى الأقوى لم تتقبل الوضع، رغم أنه كان مجتمعا بقدرته بالطبع هزيمة المقاومة الفيتنامية كليا، بل تدمير عالم الإنسان على الأرض بأكمله- وعدة مرات- إن أراد وتمكن! لكنه كان المجتمع الذى ينتج الحضارة ويفضل ذلك عن تدميرها، حتى إن جنح أحيانا.. على العكس، فالدولة الإسلامية تتفاخر بالإبادة العرقية بطريقة لم يستجرئ النظام النازى على أن يقترب منها: نهاية الحضارة هى غايتهم، فقط الوسيلة تنقصهم. والفرق هنا مهم.

الفزع والرعب من الحال الذى وصل إليه عالم الإسلام.. فالفزع له تداعيات فكرية وأخلاقية تضعنا خارج الحضارة، فلماذا قتلت الدولة الإسلامية الأستاذ الأسعد؟ فى الرد عن هذا السؤال معان مهمة للتركيبة العقلية والبعد الفكرى والأخلاقى لهذه الحركة، والذى يجد صدى فيما يبدو للأسف فى أوساط تبدو أكثر «اعتدالا»- مثلا الحركات السلفية عندنا أو السلطة الدينية فى المملكة السعودية، والتى أقنعت (أو ربما أجبرت) النظام على تدمير الأغلبية العظمى من الآثار الإسلامية، ولاسيما فى مكة- التى استبدلت «نفعيا» بفنادق عالية النجوم.. هناك مَن يقاوم فى المملكة، لكن الأغلبية خلف «داعش» فيما يبدو.

لكن لماذا قتلوه فعلا؟ الأسباب المعلنة واضحة عند لحظة الذبح. أهمها أن الأسعد كان مديرا لـ«معبد وثنى».. من حيث التعريف، هذا صحيح، فمعبد بلدة تدمر معبد وثنى، ومن حيث المبدأ فالعبادات التى كانت تتم فيه تخالف فكرة التوحيد فى الإسلام. لكن ماذا كانت تخالف بالضبط؟ كانت تخالف مبدأ الذات الإلهية الموحدة التى عُرفت من ضمن ما عُرفت فى الإسلام كالآتى: «هو الأول والآخر والظاهر والباطن»، أى لا وجود إلا لله فى التحليل النهائى، وكل وجود راجع له.. هذا المعنى يعنى، كما يعنى فى الديانات المطورة الأخرى، أن قمة الروحانية تتجسد فى اتحاد المرء مع كل ما خلقه الله فى الزمان والمكان، مع الوجود كله، ومن ثَمَّ مع خالقه. هل هذا التأويل التوحيدى الروحانى ذو التداعيات الأخلاقية العميقة موجود ومُصان فعلا فى حيز «الصحوة الإسلامية» الفكرى؟!

بالقطع لا! بل على العكس، فإن «شو» الذبح والقتل لا يمكن ألا يعبر عن معالم فجة للوثنية، المعرفة هنا كتقديس للطقوس البدائية، على حساب المعنى الروحانى التوحيدى الأخلاقى، فإذا كان التركيز أساسا على إرضاء الإله، من حيث تكفير وتقديم القرابين فى سياق «احتفالى»، يعطى معنى لحياة الإنسان على أساس الفخر بالمعشر على حساب الآخر، فأين الفرق بين ما تقوم به القبائل البدائية فى سبيل توحيد صفوفها، من أجل تثبيت معنى جماعى أسطورى، وقتال الآخر لجمع الغنائم فى غياب معيار أخلاقى كونى؟

بمناسبة موضوع جمع الغنائم هذا.. هنا يأتى السبب الثانى، غير المعلن، الذى دفع «داعش» إلى ذبح «مدير الأوثان»، الذى قضى عمره فى دراسة أحد أهم آثار المنطقة المجسدة للحضارة التى تريد أن تمحوها «الصحوة».. فحسب التقارير الواردة، فإن عملية الذبح جاءت بعد رفض الخبير الإفصاح عن أماكن الآثار التى تريد الدولة الإسلامية بيعها فى الأسواق السوداء العالمية.

التوظيف النفعى للإله من الوثنية البدائية.. هكذا نرى اتحاد النظرة الطقوسية، البدائية الوثنية، للدين مع النهج المنفعى- أى الدين كوسيلة لا أخلاقية للتسلط والوصول- هذا النهج يبدأ مما نتابعه دوريا فى مصر.. من أول الاستعلاء الروتينى باسم العفة، حتى محاولات السيطرة السياسية، حتى يصل لمبدأ الإبادة باسم الإسلام.

فى التحليل النهائى، الإسلام له أوجه عدة، منها ما ارتبط بظروف نشأته. لذلك، كأى منظومة فكرية مهمة، كان له الكثير من التأويلات عبر العصور. لكن مصير المسلمين فى العالم المعاصر سيحسمه الاختيار بين المعنى النفعى الوثنى لدين والآخر التوحيدى، الروحانى الأخلاقى.