ما إن ترتفع مقولة تجديد الخطاب الدينى حتى تتصاعد نغمات الموسيقى المصاحبة، أغلبها مؤيد ومتحمس.. ولكن. وما إن يذكرنا أحد المتحمسين مثلى بحديث شريف «إن الله يبعث على رأس كل مائة من السنين لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها» حتى ينبرى الكثيرون مؤكدين مؤيدين، ويزيدون شروحا من الإمام السيوطى تقول «ولا يشترط أن يأتى كل مائة سنة ولا يشترط أن يكون واحدا».. ولكن. وتتكاثر كتب وكتابات ومقالات من بعضنا، وأنا منهم، متحدثة ومتحمسة ولكن أعتذر، إذ أقول إننا لا نتقدم. نحاول، نبحث، ندرس، نجتهد نكتب دون أن نتقدم بالشكل المطلوب أو الذى نحن بحاجة إليه.. ولذلك أسباب يجتهد الكثيرون- وأنا منهم- فى تجنب الحديث عنها، ليس خوفا ولكن تجنبا لإشعال حرائق فى زمن به ما يكفى ويزيد من الحرائق غير أن ضميرا يتحرك، وخوفا يزحف من أن يسيطر اليأس على من يكتبون ويبحثون ويتعبون فى مجال تجديد الخطاب الدينى فيسكتون وتمضى بنا الأحداث من سيئ إلى أسوأ، وإن كنت أشك أن هناك ما هو أسوأ.
ويمكن القول إن السيد الرئيس كان واحدا من أسباب كسر حاجز الخوف عندى، فإصراره على تحميل مؤسسة الأزهر مسؤولية التجديد، فتح باب السؤال عن دور الأزهر، وبصراحة ملغومة ببعض من الحذر أعتذر فأقول مؤسسة الأزهر ليست ساحة هذا السعى، قد ينبت منها فرد أو أفراد مثل رفاعة، عياد الطنطاوى، محمد عبده، على عبدالرازق، طه حسين، الخفيف- أمين الخولى- سعد الهلالى وغيرهم كثيرون، أفراد من بين مئات الآلاف، وبرغم دورهم البارز فإن المؤسسة الأزهرية تبقى محافظة وأخشى أن أقول متجمدة الفكر، فهى تعطى نفسها ونحن نعطيها موضع السيادة الفكرية على أهل السنة فى مصر والعالم، وأية محاولة للتفتيش فى عمق البناء الفكرى والعقلى الأزهرى، أو محاولة لانتقاد إحدى لبنات هذا البناء أو تنقيتها مما يدمغها باللامعقولية والبعد عن المنطق أو العقل أو العلم قد يحرك ما لا يجب أن يتحرك. فهذا الهيكل الصخرى الراسخ المستجمع لكل آيات الاحترام والمهابة وهو يستحقهما يغمس فى عمق وعقل وفكر كل أزهرى أن إخضاع البنية الفكرية والمقولات الفقهية المتوارثة والمبجلة على مدى قرون سوف يهز مكانة الأزهر والأزهريين، وإن كنت ممن يعتقدون أن تجديد البناء الفكرى الأزهرى وتنظيفه مما علق به عبر قرون من روايات وحكايات كثير منها غير معقول ولا مقبول لا عقلا ولا فقها سوف يمنح الأزهر كمؤسسة قدره على التأثير، لكن الكثيرين من شيوخه يستمتعون بأن يؤثروا فى الجميع ولا يتأثروا بأى تطور علمى أو عقلى أو فكرى. أليس مثيرا للدهشة أن المؤسسة الأزهرية هى التى بادرت وعلى عقود عدة بمواجهة أية محاولات للتجديد، وهى التى آذت دعاته من الأزهريين. بما دفع الأستاذ الإمام محمد عبده إلى أن يصرخ فى فراش مرضه الأخير: أليس مثيرا للدهشة تجاسر العديد منهم للتدخل فى مختلف العلوم التى لا تدخل فى اختصاصاتهم، وكأنهم حراس الدين من خطر العلم والتقدم العلمى. ولكنه دين أردت صلاحه أحاذر أن تقضى عليه العمائم. وليس لأحد أن يغضب، فالمؤسسة الأزهرية كلية الاحترام والتقدير ولكن البناء الصخرى يحمى فى أحيان كثيرة فكرا جامدا يستعصى على التجديد. ثم أليس مثيرا للدهشة أن الأزهر الشريف حاكم هذا المجدد أو ذاك بعد أن التقط شيوخه بذكاء نادر خطأ هنا أو غلطة هناك، لكنه أبدا وعلى مدى عقود لم يؤيد مجددا حتى ولو كان محاذرا.
وشيوخ الأزهر الأجلاء، وعلى رأسهم شيخهم الجليل أحمد الطيب، يمنحون المؤتمرات الدولية والمحلية ثقلا، ويسطرون كتابات ومقالات تفوح بعطر الإسلام الحقيقى. ولكن - وآه من ولكن هذه- الويل لمن يخدش أو يحاول خدش الجدران الصخرية التى شكلت وتشكل الهيمنة الفكرية الراسخة بعد قرون، وأنا أعرف أن فضيلة الإمام الأكبر أمر بمراجعة برامج التعليم الأزهرى، وأخشى أن أقول هذا أمر صعب جدا بل شبه مستحيل، فالمطلوب ليس مراجعة لشطب واقعة أو حكاية أو عبارة وإنما- وأعتذر مقدما- ثمة كتب تحتاج إلى الإلغاء الكلى ونحتاج بدلا منها كتبا تشرح الفكر والفقه والشريعة بفهم عصرى وعقل متبصر وقلم شجاع لا يخشى أن يقال هذا ثابت فى فقه الإمام فلان، فهل يمكن أن نظل فى تدريس كتيب فى فقه الإمام الشافعى لطلبة وطالبات الإعدادية عنوانه «تيسير فتح القريب المجيد على متن الغاية والتقريب فى فقه الشافعى»، وفيه كلام جارح كأن نسأل عن مدى نقض الوضوء إذا انكسر العضو فى رحم الأنثى وانفثأ منه المنى! وهل من العقل أن يسأل كتاب تعليمى هل ينقض وضوء حامل قربة مليئة بالفساء (والفساء لمن لا يعلم هو الريح الذى يفرزه الإنسان من بطنه). ولست أريد أن أطيل، ولا أن أورد أمثلة جارحة أخرى، فقط أريد أن أسجل كامل احترامى للأزهر الشريف وكامل تقديرى لشيخه الجليل مع إصرارى على حاجتنا وحاجة الأزهر الشريف إلى تغيير البنية الفكرية بما يهمز هذا البناء الصخرى الذى يتكاتف الكثيرون لمنعنا من محاولة خدشه.
ونواصل..