كانا جالسين معاً فى ظل شجرة أمام حمام السباحة وقد بدت على كليهما التعاسة. وضعتهما إدارة القرية السياحية كى يمنعا أحمق، لا يعرف السباحة، من قتل نفسه غرقا! ويبدو أن الساعات كانت تمر عليهما طويلة وهما جالسان لا يصنعان شيئا.
الإطلالة على حمام السباحة كانت ساحرة وبرغم ذلك تبدو السآمة عليهما. لم يفكرا للحظة أن يرفعا عينيهما إلى الأفق. لم يفكرا فى تأمل طفولة الأشجار التى تمت زراعتها منذ أعوام قليلة. لم يُمعنا النظر إلى أحواض الزهور التى راحت تتمايل مع النسيم فى رقة. ولا خفق قلباهما لروعة الماء السخيّ حين يتصل بالسماء الزرقاء المنبسطة.
كان واضحا أنهما يعدان الساعات المتبقية حتى موعد مغادرتهما. بعد ذلك يركبان الميكروباص إلى قهوة فى حارة! أو ينفقان باقى اليوم فى بيوتهما الضيقة. لم يشعرا للحظة بنعمة كسب العيش فى مكان جميل، ولو تلقيا عرضا بأجر أكبر فى دورات المياه لما ترددا.
لشد ما يدهشنى فتور الناس إزاء الجمال الكونى! ولطالما لاحظت بعين الدهشة أن البنايات المطلة على الحدائق القليلة لا تُفتح شبابيكها غالبا. هى فى معظم الأحيان مغلقة، فلماذا يؤثرون الحيطان على المدى الأخضر؟ فيما أقطع المسافات وسط الزحام والحر من أجل الوصول إليها؟ فهل هى الألفة التى تولّد الازدراء كما يقول المثل البريطانى الشهير؟ أم أنهم لا يبالون أصلا بالجمال ويتساوى مع القبح عندهم؟
كنت أرمقهم بغيظ وتعجّب، مفكرا أن حياتى كانت ستتغير لو كنت من المحظوظين القاطنين فى واحدة من هذه العمارات النادرة؟ كنت أفكر أننى كنت سأفتح الشبابيك بمجرد دخولى البيت وربما أنام فى الشرفة!
الشىء نفسه لاحظته وأنا أسير الهوينى على كورنيش الإسكندرية. كنت أقطع مسافات شاسعة أتأمل الشرفات المطلة على البحر، لماذا يغلقها أصحابها؟ بل أغرب من هذا تجد من يعطى ظهره للبحر الزاخر! والأعجب أن معظم الناس متآلفون مع القبح، لا يشعرون بالإهانة من تلال القمامة. وكأنهم اعتادوا عليها فأصبحت جزءًا من حياتهم، لم يدركوا أن القبح يتسرب إلى النفوس من حيث لا ندرى فتضيق نفوسنا وأحلامنا.
لم تكن مصر هكذا منذ عقود مضت. شاهدْ الأفلام الأبيض والأسود وتأمل الشوارع النظيفة والحدائق الغناء والمقاعد الحجرية. كانت هناك مساحة للتأمل. وبرغم أن النقود كانت قليلة وقتها فإن الحياة كانت أغنى وأرحب. كنت تستطيع أن تملأ روحك بالجمال دون أن تنفق قرشا واحدا. هذه أشياء لم يعد يهتم بها أحد. ربما بسبب التدافع من أجل لقمة العيش، وربما لأنهم لم يمنحوا أنفسهم الفرصة اللازمة للتأمل.
القادرون ينفقون مئات الآلاف من أجل شراء مساكنهم! وينفقون الآلاف فى تأثيثها. وينفقون المئات فى وجبة طعام أو جلوس على كافيتريا. لكن جرّب أن تطلب عشرة جنيهات من أجل رفع القمامة! أو مائة جنيه من أجل تجميل الشارع! سوف تدخل فى جدال لا طائل منه نهايته أنه لن يدفع.
المهم أن تكون بيوتهم نظيفة! أما الشارع فهم لا يدركون أنه كائن حى يمرض ويتأذى. الشارع أكبر من أن يكون طريقا أو منفذا. الشوارع شرايين المدينة. ومثلما تتراكم الدهون الضارة بجدار الشريان فيُصاب الإنسان بالمرض، فإن تراكم القاذورات يصيب المدينة بالعذاب، يجعلها مريضة.
مدننا لن تعود نظيفة حتى نسترجع الجمال الداخلى فى نفوسنا. كن جميلا يصبح الوجود جميلا.