حروب الجيل الرابع.. من يحارب المشير؟

أحمد الدريني الثلاثاء 18-08-2015 21:23

أعلن الجيش البريطاني مطلع العام الجاري، إنشاء اللواء 77 على الإنترنت كقوة فاعلة ضمن قوات الجيش البريطاني وأفرعه المتعددة.

وتتلخص مهام اللواء 77 في إدارة العمليات الإعلامية الخاصة بالجيش، وتسيير دفة مسائل الحرب النفسية ضد أعداء المملكة المتحدة، والتعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي كفيسبوك وتويتر التي تمتلئ بتهديدات لا أول لها ولا آخر.

وجاء في أسباب إنشاء هذا اللواء أن هناك مستوى دائرا من الحرب الآن في العالم، لا يعتمد على الأسلحة التقليدية، وإنما على القوة غير الملموسة والأفكار، بحيث يستدعي إنشاء وحدة ذات معرفة نوعية بالحرب النفسية والفنون الصحفية والإعلامية المختلفة، يمكن أن تتعامل مع الشبكة العنكبوتية بقوانينها وثقافتها.

وحصلت وحدة الحرب النفسية والإعلامية على اسم اللواء 77، وهو لواء بريطاني يدعى باسم "Chindits"، شارك في الحرب العالمية الثانية، متألفًا من نخبة من القوات الخاصة التي أدارت حروب عصابات شديدة الاحتراف خلف خطوط العدو، وتحظى بسمعة قتالية استثنائية، إذ إنها كانت تعمل وفق صلاحيات مفتوحة لتحقق ما تعجز عنه بقية القوات بطرق الحرب التقليدية.

والاستلهام هنا في حد ذاته كاف للإشارة إلى الدور المعول على هذا اللواء الذي يتخذ من بيركشاير مقرًا لتنفيذ عملياته على الفضاء الإليكتروني. وهو ما يمضي بالتوازي مع تخفيض أعداد المقاتلين التقليديين في الجيش البريطاني وتقليص ميزانيته إلى السُدس تقريبًا.

ولايخفى أن تجنيد البريطانيين بالمئات للالتحاق في صفوف التنظيمات المتطرفة عبر الانترنت، يشكل خطرًا متناميا على المملكة المتحدة، بصورة استلزمت مثل هذا التحرك النوعي.

(2)

مع استخدام الرئيس عبدالفتاح السيسي لمصطلح "حروب الجيل الرابع"، ثار جدل حول ما يتكلم عنه الرجل. ففي حين انحاز البعض لكلام الرئيس- لأنه كلام الرئيس!- محاولين استنطاق الكتابات الأجنبية لتدعم فرضياته ونظريات ما يسمى بحروب الجيل الرابع، نشط آخرون لتسفيه المصطلح بالكلية وإظهار مسألة حروب الجيل الرابع على أنها فرية سخيفة تدور في خلد بعض العسكريين الفشلة فحسب، ولا تلقى رواجًا في الدوائر العسكرية الأكثر جدية.

والمدهش في الأمر، أن أيًا من الفريقين بمقدوره أن يجد ما يدعم تصوره في مقابل الطرح الآخر.

ففي ورقة بحثية متوفرة على موقع وزارة الدفاع الأمريكية، يناقش أحد الضباط رسالته العلمية، عن فكرة حروب الجيل الرابع، ضاربًا المثل العملي بعصابات المخدرات والجريمة في المكسيك، وكيف بلغت مبلغا من التوحش بحيث أضحت كيانًا مترامي الأطراف متشابك المصالح يمكن أن يخوض حربًا ضد الدولة ومصالحها لو أراد.

وهو ما اصطلح على تسميته بـ "non-state actor" أو الفاعل الذي لا يتخذ صورة وهيئة دولة، ويمتد التشبيه هنا ليضع تحت طائلته نموذجي حماس وحزب الله، كقوى فاعلة في الشرق الأوسط، رغم أنها مجرد تنظيمات لا تخضع لسيادة دول.

والـ"non-state actor" مصطلح استخدمه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في تسويقه الاتفاق الأمريكي الإيراني النووي، الذي يستتبع أن يلعب الفرس في المنطقة دور الشرطي الحاسم، مشيرًا إلى قدرة إيران على التعامل مع مثل هذه الكيانات في المنطقة، توجيها وتمويلا وتصديًا لو أرادت طهران!

لا تتبنى الورقة العلمية مصطلح "حروب الجيل الرابع" فحسب بل تشير إلى أنه واحد من قرابة 5 مفاهيم للتعبير عن هذا النوع من الحروب التي لا تقوم بالضرورة بين الدول والدول، ورغم إيراد الباحث العسكري لهذه النظرية كمدخل يمكن أن يفسر ظاهرة عصابات المكسيك، إلا أنه أشار لنقطة لافتة. وهي أن اصطلاح "حروب الجيل الرابع" لم يتم إدراجه ضمن العقيدة العسكرية الأمريكية وكتابها الذي يتجدد دوريًا (Doctrine for the armed forces of the United States) ليضم المفاهيم الجديدة التي تناقش عمل وفلسفة وعقيدة هذا الجيش.

وبمراجعة كتيب العقيدة العسكرية الأمريكية في آخر نسخة متوفرة منه على الإنترنت وهي نسخة العام 2013، لايوجد إشارة تقريبا لمصطلح حروب الجيل الرابع بأي من مترادفاتها.

أما الكولونيل ستيفن ويليامسون، فقد نشر بحثه المطول عن حروب الجيل الرابع والحروب الهجينة، بمعرفة كلية الجيش الأمريكي، لينال عنها درجة الماجيستير عام 2009.

تتعامل ورقة ويليامسون مع مصطلح حروب الجيل الرابع بالكثير من البرود والتشكيك، وتتعقب الثغرات التي ملأت طروحات مؤيدي النظرية وأنصارها من المحللين العسكريين الذين تواتروا على تصديرها للدوائر العسكرية والرأي العام منذ الثمانينيات. في مقابل إضفاء وجاهة علمية على "الحروب الهجينة" بوصفها مستقبل الصراعات المسلحة التي ستنطوي على ضربات متنوعة يوجهها الخصوم لبعضهم البعض.

لكن الورقة بكل ما تنتهي إليه علميًا من استنتاجات وتوصيات، تحمل تنويهًا بأن الوارد فيها يعبر عن رأي كاتبها لا عن رأي الجيش الأمريكي أو سياسة الحكومة الأمريكية.

أما مركز الدراسات الاستراتيجية بجامعة جونز هوبكنز فقد أعد كتابا يضم مواد بحثية مختلفة حول حروب الجيل الرابع، يتعامل معها بالكثير من الطبيعية كأنها حقيقة فيزيائية مجربة، لا مصطلح محل تشكيك أو جدال.

والحاصل أن هذه النماذج التي تساق هنا في هذا المقال، تعبر عن درجات متفاوتة من التعامل مع مصطلح "حروب الجيل الرابع"، من التبني للحياد للتشكيك، وكلها إما منشورة بواسطة عسكريين أمريكيين أو أكاديميين أمريكيين متخصصين في الشؤون الاستراتيجية والعسكرية، والاصطلاح بالأساس أمريكي المنشأ.

لكن المفاجأة هنا يمكن أن نوثقها على لسان براين وايتمان النائب الأول لمساعد وزير الدفاع الأمريكي للشؤون العامة، في حديثه للصحافي التليفزيوني ذائع الصيت "جون بيلجر"، أثناء المقابلة التي جرت بينهما في الفيلم الوثائقي "الحرب التي لم ترها" عام 2013.

فقد لخص الرجل اصطلاحات وتعريفات حروب الجيل الرابع في حديثه من الدقيقة (1:30:10( لما بعدها بقرابة دقيقة كاملة، من المقابلة بقوله:

"ما نتوقع أن يجري في المستقبل ليس حروب أمة ضد أمة، ولكنها التهديدات اللامتناظرة كأسلحة الدمار الشامل وحروب الفضاء السيبري وحروب ما وراء الحدود، لذلك يتعين على جيش الولايات المتحدة أن يتجهز لطيف واسع من التهديدات لنحمي مصالحنا الأمنية"

ومن ثم فإن واحدًا من الوجوة الإعلامية المسؤولة عن البنتاجون ومساعد وزير الدفاع للشؤون العامة يتكلم عن حروب الجيل الرابع، وإن استخدم التعريف دون المصطلح، بوصفها الحروب المستقبلية التي ستخوضها واشنطن.

ورغم هذا التصريح العلني الذي يحسم الجولة كثيرًا لصالح "جدية" أو "حقيقية" ما يسمى بحروب الجيل الرابع، إذ يجيء على لسان قيادات الجيش الأمريكي، فإنه برأيي يعبر عن أمزجة متفاوتة وقناعات عسكرية وفكرية متباينة (حتى داخل المؤسسة الواحدة) إزاء التعبير عن النمط الجديد من الأخطار التي تتهدد مصالح الأمم.

والمهم هنا أن الاصطلاح أو التسمية هو عملية تالية لتوصيف الأمر الواقع، فالنظريات تسعى لتفسير الوقائع الجارية، ولا يتم اختراعها من العدم. وتوصيف الظاهرة بدقة أو بغير دقة هو أمر لا ينفي وجودها، فنفي المصطلح لا ينفي الأمر الواقع، واختراع المصطلح لا يؤسس لحقيقة!

(3)

حسنًا.. إذًا المصطلح ليس دجلًا وليس كإعلانات "اللاصقة السحرية" التي تشفي من كل شيء، كما تبث الفضائيات الرديئة المتخصصة في قرصنة أفلام السينما. لكنه من ناحية أخرى ربما لايرقى لأن يستخدم في خطاب رئاسي رسمي كحقيقة مسلم بها، في ظل الجدل الذي يكتنفه.

ومن هنا، فقد انطلق الجدل الخاطئ -برأيي- حول حروب الجيل الرابع، ما بين مكذب مسفه، ومؤمن متوله.

فإذا كانت حقيقية ودقيقة وتعبر عن نمط التهديدات التي نعايشها الآن، فكيف استعدت لها الدولة المصرية؟

هنا ينبغي أن يكون الحساب الحقيقي والوقفة الضرورية، ففي حين يتم استخدام المصطلح في الخطاب السياسي الرسمي لرأس الدولة لا يتوازى معه إجراءات "متناسبة" على الناحية القتالية.

فكيف يعمل موقع أنصار بيت المقدس أو ولاية سيناء إلى الآن ويبث مواده بمنتهى الأريحية؟ وكيف ينشر الإرهابيون فيديوهات عملياتهم القذرة بسلاسة؟ وكيف يمتلكون خطابا إعلاميًا متماسكًا مزودًا بإمكانات سينمائية عالية الجودة؟ وكيف يجوسون ديار الانترنت والسوشيال ميديا بكل هذه القوة؟

لماذا لم تردعهم في كل هذه المعاقل؟

لماذا لا يتوازى مع الخطاب السياسي، ترجمة عملية لما تؤمن به الدولة أنه يحاربها؟

دعك من إيمانك بها من عدمه.. السيسي يؤمن بها، فما أعد لها؟

لا ينتقص مثل هذه التحركات النوعية البديهية التي تبنتها بريطانيا لمواجهة أخطار داعش وأشباهها، من بسالة الجندي المصري الذي يقاتل بكل ما أوتي من شجاعة وإيمان على أرض سيناء، ولا يهز إيماني قيد أنملة في شرف الجيش وهو يخوض هذه الحرب متغيرة الملامح التي يخبرها للمرة الأولى.

لكن السؤال الموجع، إذا كان لديك التشخيص وتؤمن به، فلماذا لا تتعامل مع التهديد بإجراء من نفس جنسه؟

الحاصل أن مصطلح حروب الجيل الرابع وهذه الأسرة من المفاهيم والنظريات، مجرد عمود من أعمدة الخطاب السياسي للدولة المصرية الآن، وغرضه كسب أرضية أكبر لدى الجماهير التي تؤمن أن المشير جاء ليحميها.

ولكن أين إجراء المشير؟ أين التحرك النوعي؟

أظن المشيرعاد إلينا من كلية الحرب الأمريكية العليا، بالنظرية التي تصف، لكننا لا نرى إلى الآن الحل. فقد مجرد تشخيص.

روابط ذات صلة:

اللواء 77 للجيش البريطاني على الانترنت:

http://www.theguardian.com/uk-news/2015/jan/31/british-army-facebook-warriors-77th-brigade

ورقة الكولونيل ستيفن ويليامسون:

www.dtic.mil/cgi-bin/GetTRDoc?AD=ADA498391

أوراق مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة جونز هوبكنز:

http://www.jhuapl.edu/urw_symposium/previous/2007/pages/Proceedings/2006_URW_Book_Full.pdf

عقيدة الجيش الأمريكية ، إصدار 2013:

http://www.dtic.mil/doctrine/new_pubs/jp1.pdf

حديث برايت وايتمان مع جون بيلجر:

https://www.youtube.com/watch?v=BRKEBAE_P5U