دهمنى كلل لم أتعوده، وبقيت متربصًا أن الأمور ستمضى على غير ما يرام، ولذلك لم أكتب الأسبوع الفائت لـ«المصرى اليوم» ولا «الأهرام»، ويبدو أن للإنسان حاسة توقع تبقى ضامرة معظم أيامه إلى أن يقترب من حافة وجوده الأرضى فتصحو تلك الحاسة وتتمدد براعمها، وهذا ما كنت أنكره أحيانًا عندما كان صديقى الجميل البديع الأستاذ كامل زهيرى يفاجئنى بسؤال تقريرى خلال السنة الأخيرة من رحلته الأرضية: ولد.. أنت شامم ريحة حريقة وموت زى اللى أنا شامه.. البلد يقترب من ذلك؟!
وأرد محاولًا التخفيف عنه لحالته الصحية: لا مؤاخذة يا عم كامل إحنا جيل لا يحس ولا يشم ولا يسمع ولا يرى.. لأنكم أجهزتم على كل حواس البلد!
وما هى إلا ثلاث سنوات حتى شب الحريق وانتشرت رائحة الموت بأحداث يناير 2011!
بقيت على حالى يومين أو ثلاثة إلى أن تلقيت خبرًا فى يوم واحد برحيل اثنين من أصدقائى، أولهما الفنان الأستاذ نور الشريف الذى عرفته عن قرب أواخر الثمانينيات وكنا نقضى ساعات طويلة نتناقش وكلانا واقف فى حمام السباحة، لأننا بالصدفة لا نجيد السباحة، والثانى هو المهندس ماجد جمال الدين، رفيق وصديق وزميل مشوار نصف القرن منذ المرحلة الجامعية إلى الآن، حيث التقينا بقناعات مشتركة فكريًا وسياسيًا وإنسانيًا.. ولم أجرؤ- وأنا فى حالتى تلك- على الذهاب للجبانة، وبقيت باكيًا إلى أن ذهبت للعزاء! وكنت قد جهّزت عقلى ونفسى للكتابة عنهما كرمزين لجيل أنتمى إليه.. ولد عند منتصف الأربعينيات من القرن العشرين وبلغ السبعين الآن.. اقترب منها أو تجاوزها بمدة لا تزيد على شهور!
إلا أن الدفة تحولت عندما تلقيت جرعة أمل، مثلما هو السمك الذى انحسرت عنه المياه وازدادت عكارة الطين وإذا بسرسوب مياه نقية يتدفق فجأة، فلا يملك الكائن الحى إلا أن ينتقل من فوره من حال إلى حال!
كان سرسوب مياه الأمل الذى جاءنى هو حديث للرئيس السيسى استمعت إليه صدفة من راديو السيارة، وعرفت من المذيع أنه كان أمام ندوة تثقيفية للقوات المسلحة.. ومنه عرفت أن مزارع للسمك يمكن أن يصل إنتاجها إلى مائة ألف طن ومجهزة على أعلى مستوى عالمى سينتهى إنشاؤها خلال العامين المقبلين.. ومعها مليون ونصف المليون فدان.. وثالثهما مدينة العلمين الجديدة بامتداد حوالى 13 كيلومترا على شاطئ البحر الذى سيكون كورنيشا وشواطئ لجميع الناس ولن تكون معازل للمقتدرين وحدهم.. أما الرابعة فهى مجتمعات متكاملة فى مناطق الأطراف.. سيناء والنوبة.. والمنطقة الغربية وستبدأ بمدينة الضبعة.. كل هذا كوم، والأهم والأخطر فى نظرى كوم ثان، هو حديث السيسى عن بناء العقول.. ومعها القلوب، وهذا عندى- وربما عند كثيرين- هو مربط الفرس، إذ قد يحدث ويتحقق كل ذلك الإنجاز المادى.
ولكن على رأى الزميل الصديق إبراهيم عيسى ممكن أن يأتى واحد واقف على منبر أو طالل من شاشة فضائية ويهدم كل ذلك بفتوى واحدة تحرم أكل سمك المزارع وتجرم السكنى فى المدن الجديدة وإلى آخره، والحل الوحيد هو أن نبنى عقول الناس بما لا يجعلهم فريسة سهلة لمثل تلك الترهات التى طالما خربت وطننا وأحالت حياتنا إلى جحيم وهدمت تماسك واستقرار آلاف الأسر!
كنا كلنا نتحدث عن بناء العقل المصرى، ولم نكن نلتفت كثيرا إلى القلب المصرى، وبحكم أننى «سوابق» فى حكاية التصوف والدروشة أدرك مدى أهمية القلب على العقل، وهذا بالتحديد ما تجسده حالة زعامات الإخوان والجهاديين.. لأنهم يُعملون عقولهم بحكم أستاذيتهم الجامعية ودرجات الدكتوراه التى يحملونها، لكنهم لم يُعملوا قلوبهم لحظة واحدة.. وفى هذا حديث يطول.
ثم كانت المكاشفة خلال حديث رئيس الجمهورية حول قانون الخدمة المدنية، وأقول إن ما يطرحه السيسى هو الصحيح، لأننا جميعا طالما شكونا من ترهل الجهاز الإدارى والحكومى، وأن الثمانية ملايين موظف يمكن أن يخفضوا إلى أقل من 2 مليون ليرتفع الأداء.. وهلم جرا، وعندما تأتى عملية الجراحة يبدأ الصياح، مع أن الدولة لن تفصل أحدا ولن تخفض أجر أحد.. وإنما ستبدأ الإصلاح التدريجى ليتم إنقاذ الوطن من أن يبقى فى مستنقع التخلف، أى الفقر والجهل والمرض وقلة الكفاءة أبد الدهر! فإذا أضفنا لإصلاح الجهاز الإدارى، عملية نقل المقار الحكومية من القاهرة الحالية إلى العاصمة الإدارية الجديدة التى ستجهز على أحدث مستوى عالمى فإن الأمل يبدو حقيقيًا، وهنا لا أفلت الاقتراح الذى طالما سمعته من المهندس صلاح دياب حول الأهمية القصوى لنقل كل المهن المتركزة وسط القاهرة الحالية إلى تلك العاصمة الجديدة، بمعنى أن تنتقل كل عيادات الأطباء ومكاتب المحامين والمحاسبين والشركات الأخرى ليصحو الناس كل صباح وإذا بهم فى عاصمتهم التى يرونها صباح يوم الجمعة.. شوارع شبه خالية وحدائق نظيفة وقمامة مجموعة من الصباح المبكر.. ومواصلات مريحة!
كان سرسوب الأمل الذى جاءنى بعد أن صدمنى رحيل أصدقائى وضربنى الكلل هو الذى دفعنى لتأجيل الكتابة عن جيل بدأت دفعاته قيد الطلب.. هناك.