عدودة لن أعتذر عنها

جمال الجمل الإثنين 17-08-2015 04:59

من حقي الآن أن أفتتح متحفا للأحزان، صار لدي مقتنيات كثيرة ومتنوعة من الوجع والفقدان، صرت خبيرًا في الطعنات، وطعم الجروح، ورائحة الموت، ونكهات الغدر، وبصمات الوعود المبتورة، والمواعيد المبتسرة، وأشواك الذكريات.

كنت في البداية أحرص على كتابة المراثي، وكلمات السلوى والعزاء، حتى نزفت آخر قطرة من الحرف المكلوم، وبدأت في لوعة الألم المكتوم.

الحزن لا ينبع من بحيرة الموت وحدها، فالموت نفسه ليس إلا درجة متطرفة من الفراق، الذين يسافرون هم موتى بمقدار سفرهم، والذين يخاصمون، والذين يضعون الأقنعة ويضيعون في متاهة الخواء الواقعي.

الحزن ينبع أيضا من المرض، من العجز، من الأزمات التي تأكل لحمنا ومشاعرنا، التي تلتهمنا ونحن أحياء نحمل توابيتنا على ظهورنا، وندب في صحراء صفراء لا واحة فيها ولا ماء.

قبل أيام اتصل بي الغالي جمال الغيطاني، تبادلنا قدرا جميلا من الود والحب، وتواعدنا على لقاءات مستمرة نكمل فيها مشروعا بدأناه معا منذ سنوات، وشغلتنا عنه ظروف الحياة الصعبة، وبمحبة بالغة قال الكبير للصغير: لن أتركك تنسى، سأتصل أنا، سأطاردك، ولن أترك فرصة للقاء إلا ونلتقي.

كان بيننا حديث آخر، حول الشأن العام وأحوال الإعلام، لا مجال له الآن، لكن مواعيد اللقاء حانت، بينما جمال لايزال ينتظر جمال، لا أعرف أينا الذي أهمل الموعد؟، لا أعلم أينا الذي خذله قلبه؟، لا أعلم من فينا الذي يستحق العتاب؟

يارب اشف جمال، يارب امنحنا فرصة لنكمل ما اتفقنا عليه، ونضحك قليلا، ونحلم قليلا، ونحكي قليلا، ونشكو من الواقع الرديء قليلا.. يارب أنعم علينا ببلة ريق تخفف عنا قدرا من هذا القحط الوجداني المخيف.

قبل عام تقريبا كتبت معاتبا عبدالرحمن الأبنودي، ولما بدأت الكتابة الطويلة عن حياته، أبى أن يقرأ ما كنت أنوي أن أواصل به العتاب، وذهب إلى حيث لا يقول، وكنت أحتاج أن أشاكسه، وأنتظر ردوده، فغيرت عتابي إلى رسالة محبة، وسرد لسيرة الزمان والمكان.

هل الموت يجعل الميت أفضل؟

لا أعرف، فأنا لم يتيسر لي الحوار مع أصدقائي الغائبين، بالرغم من أنهم «وطن» أكثر حضورا وعددا من الوطن الذي يجافيني، ويخنق روحي، ويهددني بالتهميش والزوال، لدرجة انني أخشى أن تكون حياتي قد صارت ورائي، وأنني أمشي بظهري نحو الماضي، وليس نحو المستقبل.

يموت الناس كل لحظة، لكننا لانعرف عن الموت إلا ما يأخذه من أحبابنا، الموت البعيد ليس موتا، والموت المجرد ليس موتا، إنه مجرد خبر بارد عن حدث ما (وفاة فلان، مقتل 60 جراء تفجير، مصرع المئات إثر زلزال...)

الموت الذي نذكره هو انقطاع علاقات نعيشها، ومواعيد ننتظرها، فإذا فعل المرض ذلك فهو موت بمقدار ما يستمر، وإذا فعل السفر ذلك فهو موت بمقدار ما يقطع من التواصل والمشاعر، وإذا فعلت المشاغل والضغينة ومنافسات الحياة ذلك، فهي أيضا موت، بل موت من النوع الرديء.

عندما ذهب نور الشريف، تحجرت الدموع في عيني، حتى الآن لم أذرف عليه دمعة، دخلت في حالة بلادة عجيبة، وجمعت عشرات المقاطع من حواراته التليفزيونية الأخيرة، أتأمل ماذا فعل المرض في تكوينه، أتأمل حزنه الفلسفي على تغير الحال، كنت قريبا من نور إلى الدرجة التي شعرت فيها بعجز الكلام عن ترجمة ما أشعر به، لم أقابله منذ سنوات، وهذه واحدة من جرائمي الكبرى مع أصدقائي، فأنا أتصور أنهم خالدون، وأن هناك فرصة ممتدة لتعويض المؤجل، والوفاء بالوعود الآملة، ثم يباغتني الفراق، وأندم على كل وقت مر بلا لقاء، وبلا حوار.

عندما أتذكر أصدقائي الغائبين بالموت أو السفر، أو المرض، أو الانشغال، أشعر أنني أموت، بالتقسيط القاسي، ويرن داخلي صوت محمد منير في «حدوتة مصرية»: تموت حتة مني.،،، وقد مات مني الكثير حتى صرت مثل شجرة خريفية تنتظر ربيعا جديدا يعيد لأوراقها الإخضرار.

أيها الأحياء ألا من حياة تعوض كل هذا الموت الذي يلاحقنا؟، ألا من أمل يخفف من يأسنا المفروض؟، ألا من واحة نستظل بها في هذه الصحراء القاحلة؟، ألا من مستقبل يعوضنا عن الماضي الجميل الذي تأكله أيامنا المتوحشة؟

لا تعاتبوني على حزني، ولا تنفروا من «عدودتي»، إنني أبكي ماضٍ جميل لا أرى له في المستقبل من بديل.

جمال الجمل

tamahi@hotmail.com