انبعثت من احتفالات افتتاح المجرى الجديد لقناة السويس رسائل متناقضة، تجسد بعض آمال وأخطار المستقل معا.. إنجاز المشروع فى زمن قياسى وفى ظل ظروف غاية الصعوبة يعبر عن قفزة نوعية إلى الأمام، حتى إذا صحت ملاحظات البعض التى أشارت إلى أن العائد لن يأتى على المدى القريب أو حتى المتوسط، نظرا لظروف سوق التجارة العالمية وحجم الاحتياج إلى حركة الملاحة. لا بأس فى ذلك، فالاستثمار فى المستقبل، حتى دون عائد ملموس على المدى القصير، يجب أن يكون من أولويات بلد مثل مصر، حتى فى ظل الظروف الحالية.. ولذلك كتبت كثيرا داعيا إلى الاهتمام بالعلوم الأساسية التى يظهر أثرها على المجتمعات أساسا على المدى الطويل. وكما هو الحال مع العلوم الأساسية فإن الاستثمار فى مجرى القناة يعتبر إسهاما (حتى إذا كان غير مباشر) فى الحضارة المعاصرة- أو بلغة من روجوا للمشروع «هدية إلى العالم»- نادرا ما استطعنا تحقيقه نتيجة تجاهلنا الاستثمار فى العلم والفكر.
وهذا يضيف عاملا معنويا مهما على المدى القصير يساعد على المثابرة لتحقيق واقع أفضل على المدى الطويل. فى هذا السياق عبر المشروع عن قفزة مهمة للأمام، بعد سنوات من التخبط، العاكس لخلل حاد فى قدرات النخبة السياسية ومؤسسات الدولة على التحرك والإنجاز، حيث ساد الإحساس بالعجز وفقدان الأمل.
فى نفس الوقت، عبرت التغطية الرسمية للحفل (التى أذاعتها حتى القنوات الخاصة) عن قفزة نوعية فى اتجاه معاكس، وكأنها من صناعة آلة تحدف فى الزمن بعيدا للخلف.. نكسة تجسدت فى نبرة مذيع مصدوم، استمر فى حالة ذهول مصطنع لمدة ساعات.. صوته يبدو أنه يأتى من سمو أعلى ليقص لنا السافلين هول ما رصده من هيبة فى عالم القديسين؛ صوت متصلب يتعالى على من يخاطبه، يحتقر من يخالفه و«يهش» من يعكر صفو وصفاء المناسبة؛ المناسبة التى تفضح مستوى عمق وقوة الإمكانيات الفكرية المتاحة لمن أعد العرض.. محدوديته الواضحة بطريقة مؤلمة فى الطقوس النشاز المصاحبة؛ فى عزف موسيقى متواضع المهارة لمقطوعات نمطية مبتذلة، وإخراج فنى مستوحى أحيانا من المعايير التذوقية السائدة فى بازارات خان الخليلى الأرخص.
أعادنى كل ذلك (والزى الميرى وعرض الطيران العسكرى) عقودا عدة إلى الوراء؛ تحديدا إلى طفولتى آخر أيام السادات.. لكن ربما هذا «الإفيه» المقلق بالنسبة لى هو الذى يبعث بالطمأنينة لدى البعض، فيعتبرونه معبرا عن عودة روح البلاد، لأنها عودة لما كانوا يعرفونه فى الماضى؛ للبلد «اللى اتربينا فيه»، الذى راح فى رحلة عصيبة فى صحراء المجهول لعدة سنوات. إن الرغبة للعودة لهذا البلد المفتقد يمكن أن تكون قوية بشكل كاف حتى تصاحبها رغبة أخرى عنيفة لإسكات من يشكك فى إمكانية العودة، أو رصانة وحكمة قرار الاندراج وراء مشاعر الحنين المصاحبة، فيحذر من زيف السراب.
هذه الظاهرة- عشق العودة لما هو مألوف ومعروف فى حضن إجماع الجماعة- ليست بالغريبة أو الجديدة، فهى معروفة حتى فى الأساطير القديمة، بل تجسد الصورة الأساسية للشعر العربى الأقدم، حيث يجتمع الشاعر مع القبيلة فى مرحلة «الفخر» بعد رحلة توهان «الرحيل» فى الصحراء، ذلك على عكس الشاعر الصعلوك الذى يقضى حياته فى صراع دائم مع أغوال الصحراء. نحن كمجتمع نخشى مصير الصعلوك.
لكن فى المجتمعات المعاصرة المنفتحة لا يأتى التماسك فى الأساس عن طريق العصبية القبائلية ونفسية الجماعة السيكولوجى (حتى إن كان ذلك الشق موجودا دائما) بقدر ما يكون مبنيا على مبادئ متفق عليها من خلال نقاش عقلانى حر وتوافق عام على حيثيات منبثقة عن ذلك النقاش الجارى بين أفراد مستقلين ومقتنعين بأحقية المرء فى الحياة والحرية والعيش الكريم.
الرعب السائد من احتمال التوهان الصعلوكى فى صحراء سياسية مشابهة للتى عرفناها بعد يناير ٢٠١١، يشكك فى إمكانية تحقيق هذا النوع من المجتمع، ويدفع البعض للإقرار بخطورة المحاولة فى حد ذاتها فى ظل الظروف الراهنة.. فعلا، لا يمكن إنكار الخطر، خاصة فى ضوء ما يحدث حولنا، لكن إذا كنا نريد أن ننظر للمدى الطويل- كما يوحى تأييد مشروع القناة الجديدة نفسه- فلا مفر من إقرار أننا هكذا نضع أنفسنا خارج الزمن، فى خانة خطر التحجر وقابلية الانكسار المفاجئ.
إن التماسك النابع فقط من فطرة البقاء، والخوف من المجهول، ينبثق عنه عجز على التطور، والتأقلم فى عالم تغير كثيرا منذ آخر مرة سمعت صوت المذيع المذهول بقداسة إنجازات «بطل الحرب والسلام». المجتمع المتماسك هكذا يدور فى سياق رمزيات خطابه المتصلب، وينكسر عندما يفقد الرمز المصطنع بريقه.. والزمن الذى يعيش فيه دوّارًا، سجين الحلقة المفرغة.