«كتاب نميمة» سليمان فياض عن صلاح عبدالصبور: كلمات قليلة تقتل شاعرًا

كتب: اخبار الجمعة 14-08-2015 16:10

عن صلاح عبدالصبور، الشاعر والإنسان المرهف الحس، لدرجة كان معها وقع كلمات ساخرة لوامة على نفسه ثقيلة كحجر، خط الكاتب الراحل سليمان فياض، في مؤلفه «كتاب النميمة» كلمات تنشرها «المصري اليوم» في ذكرى رحيل الشاعر الكبير.

«ولأن المناخ الثقافي آنئذ كان مناهضا ومعاديا لحكم السادات ولسياسة الانفتاح في كل القطاعات إلا قطاعي الثقافة والإعلام، فقد أخذ أكثر المثقفين موقفا حادا من صلاح عبدالصبور، ومجلة (الكاتب) في عهدها الجديد، وعدوا صلاح متعاونا مع السلطة. وأعجب لنفسي كيف أزعجني قبول صلاح لذلك الدور. وأذكر أن أحاديث المثقفين كانت شديدة القسوة على صلاح، وملأت هذه الأحاديث أذني.

ولحبي لصلاح الشاعر والإنسان أخذت لنفسي جانب السلب في موقفي من صلاح، وموقفي من الكاتب، ومن المثقفين جميعا. ولكم ألوم نفسي إلى اليوم لاختبار موقف الهروب من التعاون مع صلاح.

جائني في بيتي صديقي عبدالغفار مكاوي، وراح يتحدث إليّ ويحاورني طوال ثلاث ساعات؛ كي أتعاون مع صلاح بالكتابة لمجلة (الكاتب)، لكني أصررت على موقفي من مقاطعة (الكاتب)، مع احتفاظي بودي الشخصي لصلاح، ونسيت أن المجلة هي في النهاية مجلة ثقافية، وأنني مغترب بقلمي في مجلة الآداب البيروتية، وأن صلاح الشاعر المبدع يمكنه أن يصنع بالكاتب شيئا يذكر للإبداع، الذي لم يكن يجد له مساحة تذكر في كل المجلات الثقافية، ونسيت أن مواقف المثقفين، في كثير من الأحيان، هي مواقف شخصية شللية في حقيقتها، وأكثرها كان يتقرر حول مناضد مقهى (ريش) بزعامة عمدة الأدب إبراهيم منصور، وليست مواقف ثقافية ترعى دائما المصلحة العامة للثقافة والمثقفين، ويتوزعها الحب لهذا والكره لذاك، وتسيطر عليها هنا وهناك مواقف السياسة بين اليسار واليمين.

كان موجعا لي أن يغادر صديقي عبدالغفار مكاوي بيتي فاشلاً في مهمته، وأن أكون أحد المساهمين في وحدة صلاح، ومعاناته، ورحت أرقب تحريره للمجلة، وأراها حريصة على فتح صفحاتها للإبداع، وقد اعتزلتها أقلام كثير من المثقفين عدا الشاعرين أمل دنقل ونجيب سرور، وأتابع جرأة الأخير وهو يهجو بمطولة شعرية ساخرة مثقفي ريش و(حكماء ريش).

ولقد حاول الاثنان معي إثنائي عن موقفي دون جدوى، وكان طبيعيًا أمام هذه المقاطعة أن تتعثر مجلة (الكاتب) في أداء مهمتها، وأن يهبط مستوى تحريرها لقلة عدد كتابها المجيدين، وأن يقل عدد قرائها، وأكثرهم من الكتاب والحالمين بأن يكونوا كتابًا، وزادت خسائر الكاتب ولم يعد لها دور فتوقفت عن الصدور.

ومرتان لجأت فيهما لصلاح كمدير للنشر، ثم كرئيس لمجلس إدارة هيئة الكتاب، لأنشر كتابين لي، وفي المرتين استقبلني صلاح استقبالاً حسنًا، وكأن لم يحدث مني شيء أساء إليه، ووافق على نشر الكتابين وبأعلى أجر في التعاقد يعطى لكاتب، كان كبير القلب، وكان كبر قلبه هذا أقسى على من أي موقف آخر منه أو عتاب.

ثم كانت الصدمة التي هزت الحياة الثقافية، في الوداع المفاجئ لصلاح، وفضحت القسوة التي يتمتع بها المثقفون، قسوة تعذيب الذات، وتعذيب الآخرين، وهم في هذه القسوة على حظ كبير، ولأنني لم أكن من شهود ساعات الوداع، وسط ضحك عابث وحوارات جارحة في ساعات العشاء الأخير، فإنني أترك هذه الساعات لشهودها الأحياء بعد وداع أمل دنقل للدنيا، أتركها لجابر عصفور وأحمد عبدالمعطي حجازي، وبهجت عثمان، وكانوا جميعا أصدقاء، وتطاير من أحدهم كلمات جارحة بلا حساب، ودون قصد، كلمات قليلة يمكن أن تقتل بذاتها إنسانًا شاعرًا وحساسًا وشديد الاعتزاز بنفسه، أودع بثه وحزنه يومًا في كلمات قصار (الناس في بلادي جارحون كالصقور)».

* مقتطع، بتصرف، من «كتاب النميمة» للكاتب الراحل سليمان فياض