أكثر من ثلاث ساعات «قلبت فيها الدنيا» بحثا عن تسجيلات وصور نادرة جمعتني بالفنان القدير والإنسان الجميل نور الشريف الذي رحل تاركا فراغا لايستهان به لكنه ترك للناس رسائل مهمة من عمر بن عبدالعزيز إلى سواق الأتوبيس إلى ناجي العلي إلى المصير وغيرها من الأعمال.
وكانت الصور وشرائط الكاسيت لثلاث حوار أجريتها مع الفنان القدير كان أولها في أواخر عام 1989 حين كان يقوم بتصوير فيلم «قلب الليل»، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ والذي كتب له الحوار والسيناريو أفضل من حول أعمال نجيب محفوظ للدراما والسينما وهو السيناريست محسن زايد وكان الحوار الثاني في مكتبه بشركة الإنتاج( .n.p )وكان هناك حوار ثالث خاطف لم يتم الساعة أجريته معه حين كان يقدم إحدي مسرحياته على مسرح سينما قصر النيل، تقريبا مسرحية «يا مسافر وحدك» لكن للأسف فإنني -على الأقل حتي الآن- لم أجد شيئا مما بحثت عنه سوي هذه الصورة، لكن مما أذكره شذرات سريعة وخاطفة مما دار في الحوارات الثلاث،وكنت منذ وقت مبكر حريصا على مشاهدة أعماله منذ مسلسله التليفزيون المبكر جدا «القاهرة والناس» الذي شهد ميلاد مجموعة مهمة من النجوم أذكر منهم رفيق مسيرته أشرف عبدالغفور وهو كان مسلسلا اجتماعيا يوميا كانت تحرص كل أسرة مصرية على متابعته وكنت في لقائي معه في حوارنا الخاطف في المسرح أجريته معه بين مشهد وآخر وفصل وآخر في الكواليس ولم يكن متفائلا بمستقبل المسرح الجاد في مصر.
أما عن لقائي معه في مكتبه فكانت مفارقة جميلة وكان منشغلا للغاية وكرر اعتذاره بين دقيقة وأخري لأنه كان ينشغل عني بين حين وآخر ثم يعود قائلا تعبير ينفي عنك صفة الضيف «ما انتش غريب» وحين جلس إلى مكتبه قلت له «أنا مندهش فمكتبك يطل على ميدان صاخب هو ميدان رمسيس ولا تصلنا ضوضاؤه فأشار إلى الزجاج الملون المعشق للنافذة خلف ظهره البركة في الجمال دا حايش عني كل الدوشة مافضلش غير دوشة الشغل فممدت له يدي بمجلة كويتية كانت تصدرها رابطة كتاب الكويت اسمها البيان وكانت لي فيها قصيدة بعنوان» أسميك ماذا وكانت عن الطفل الفلسطيني في الانتفاضة «فإذا به يترك الحوار ويقرأ القصيدة بإلقاء رائع يجسد معني الألم وخيبة أملنا في العرب وتعبر عن الجرح الفلسطيني الغائر من زمن وإذا به يعرب عن إعجابه بالقصيدة واندهاشه وفرحته في آن فالقصيدة يصاحبها رسم للفنان الشهيد ناجي العلي، وطبعا أكاد أبكي لأن هذه القصيدة بصوت نور الشريف تعد وثيقة نادرة، أسأل الله العثور عليها.
ومما أذكره حين زرته في مكان تصوير فيلم «قلب الليل» وهممت بالانصراف استدركني قائلا استني أنا رايح المكتب تعالي معايا أوصلك وأوصلني إلى ميدان التحرير ومن المفارقات أننا في طريقنا قابلنا الفنان محمود الجندي وأوقف الاثنان سيارتيهما إلى كوبري 6 أكتوبر وتبادلا الحديث لعشر دقائق وشكا له نور الشريف من مشاكل سيارته ولأن يوسف فرنسيس فنان تشكيلي ومخرج سينمائي وكان صحفيا في الأهرام فقد قدر له أن بكون قريبا من توفيق الحكيم وقد فكر فرنسيس في تجربة سينمائية مغايرة وهي أن يخرج فيلما مأخوذا عن رواية الحكيم عصفور من الشرق وأمكنه هو ونور الشريف إقناع الحكيم بالتمثيل كأحد أبطال هذه الرواية ولكن بعد أن تقدم به العمر حيث هناك شاب يعاود تمثل تجربة الحكيم في تجربته الشخصية والعاطفية المماثلة في ذلك الحوار» العاطفي «مع الآخر وفي الفيلم يقوم توفيق الحكيم بتجسيد شخصية توفيق الحكيم يعني لن يمثل لكنه في الفيلم يستقبل في فندقه الباريسي ـ وهو يستريح من عناء الأعوام ـ شبابه في ملامح نور الشريف الذي يقع أيضا في حب إيفا الجديدة الشابة وبين حين وآخر يعود لتوفيق الحكيم بعد كل موقف يمر به مع إيفا ليسأله عما فعله الحكيم قديما عن إيفا التي تخص الحكيم أو بطل الرواية ويندفع وراء قصة إيفا بائعة التذاكر الحسناء في مسرح الأوديون، عندما التقي بها توفيق الحكيم لأول مرة في زيارة له لعاصمة النور، فبهر بها، ومن خلال حبه لها كتب كتابه الذي حرك عواطفنا شبابا.
وجعلنا نتأمل تجربته العاطفية في كثير من الدهشة، لجرأة الكاتب عندما يتعرف في سطوره ويندمج نور الشريف في تمثيل دوره، ويدخل مرتديا بيريه الحكيم. مطلا عليه في ابتسامة مودة فيسأله الحكيم في خبث::انت مين عرفني بنفسك؟ فيرد نور الشريف :أنا توفيق الحكيم ـ انت! توفيق الحكيم أمال أنا أبقي مين؟ المهم أنه لم يفتني أن أسأل الفنان الراحل نور الشريف آنذاك عن تجربته في هذا الفيلم وكيف وافق الحكيم على التجربة فقال لي :هذه من أمتع التجارب بالنسبة لي والتي تمثلت في إحياء عمل إنساني رفيع لتوفيق الحكيم وأن أتمثل شخصيته في شبابه في باريس وأعيش تجربته من جديد وهي مغامرة جميلة تؤكد على أن المشاعر والعواطف في الحب مثل الكثير من تجارب التاريخ الذي يكرر نفسه وناهيك عن الأمر الأكثر إثارة أن نجعل سيد المسرح العربي يمثل في فيلم.
وهناك مشاهد صورناها معه وهو في المستشفي»وسألته :«كيف تم إقناعه؟» قال لعب يوسف فرنسيس دورا مهما في ذلك وكانت له علاقة حميمة بالأستاذ كما أقنعته أنا أيضا بعدما عرفت مفاتيح قبوله للمغامرة وأذكر حينما كنت أجري الحوار دخلت علينا الفنانة الجميلة هالة صدقي التي كانت تصور في هذا اليوم مشاهدها مع نور الشريف وكلاهما كان يرتدي ملابس التصوير وسألت هل أزعجكم أو أعطلكم إذا جلست فقلت طبعا لا اتفضلي فجلست إلى جواره وتابعت الحوار «ثم أذكر أنني سألت نور الشريف أيضا عن فيلم حدوتة مصرية وعن تجربة عمله مع يوسف شاهين خاصة وأنه يجسد شخصيته في الفيلم وأذكر هنا إجابته جيدا وكأنه قالها لي بالأمس حيث قال «كانت من أثري التجارب في مسيرتي ويوسف لم يكن يرضي بالإتقان بديلا لكن كان الرهان الحقيقي لي كفنان كيف لا أقع في فخ التقليد لأصير مجرد مونولوجست وكيف تكون روحي وخبرتي موجودة وفي نفس الوقت أجسد روح شاهين وكان دائما يناديني باسم دقدق وهذا اسم ينادي به من يحبه وأذكر أيضا لأن قصة الفيلم للدكتور يوسف إدريس والإخراج ليوسف شاهين فقد تكرر تعارض وجهة نظريهما فحين كنت أخلو لإدريس كان يشكو لي شاهين وحين كنت أخلو لشاهين كان يشكو لي من إدريس لكنه التجربة بين عبقريين كانت ممتعة «لقد قدم نور الشريف باقة من الأفلام المهمة في تاريخ السينما المصرية ومجموعة من الوجوه الشابة التي صارت نجوما.
رحم الله الفنان الجميل إذ رتبنا أكثر من مرة لإجراء حوار مطول لكن في كل مرة حالت دون إتمام الحوار حالته الصحية ورغم أن الفن لدي نور الشريف لم يكن يعني التهافت على النجومية بقدر ما كان رسالة فكرية وإنسانية وفنية فإنه لم يسلم من أذي البعض سواء في بعض أفلامه مثل ناجي العلي أو في حياته الشخصية لكن الرسالة التي آمن بها كانت عنده أهم بكثير وهو ماحقق لنور خلوده الفني كما أنني اعتبر لقائي مع نور الشريف ذلك الإنسان البسيط والنقي وبقلبه الأقرب إلى قلب طفل من الأمور التي أفخر بها.