«هذا الكتاب مجرد قطرة في بحر الخطايا والجرائم التي ارتكبها اليمين المصري ضد الثقافة والمثقفين، فالملف الكامل ما زال ممنوعًا من الفتح، لأن الذين يملكونه ليسوا طرفًا واحدًا، ولا يملك الفرد منا أكثر من بضعة أسطر أو قليل من الصفحات».
فقرة من مقدمة مُطولة لكتاب «من الأرشيف السري للثقافة المصرية»، للمؤرخ المصري غالي شكري، الذي صدرت طبعته الأولى منذ 40 عامًا في لبنان، وأعادت طبعه مكتبة الأسرة في أبريل الماضي، ويرصد فيه المؤلف التحول السياسي في مواقف عدد من المثقفين بدءًا من توفيق الحكيم صاحب كتابي «عودة الروح» و«عودة الوعي»، وصولًا إلى صالح جودت، مؤلف «قصة كفاح البطل».
صدر الكتاب في بيروت عام 1975، بعد هجوم عدد من المثقفين على الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، رغم أنهم بحسب الكاتب، كانوا جزءًا من نظامه، ومؤيدين لخطواته، فكتب يقول: «على من يريدون فتح ملف ثورة يوليو أن يفتحوا كل الملفات، حينذاك سوف تتبدى حقيقة اليمين المصري، الذي يطالب الآن بمراجعة الماضي ومناقشته، وسيكون الطرف الوحيد الذي يحرق الملفات ويطويها للأبد، لأنه كان وما زال المتهم بل المجرم الوحيد».
تحت عنوان «الأدباء يعقدون مؤتمر جنيف»، كشف «شكري» الأرشيف السري للأديب الراحل توفيق الحكيم، إذ كان الأخير مؤيدًا للصلح مع إسرائيل، ومعارضًا للوحدة مع سوريا، كما كشف رفضه الدفاع عن المثقفين الذين اعتقلهم نظام الرئيس جمال عبدالناصر.
أيّد توفيق الحكيم الصلح مع إسرائيل، وكان يرى ذلك الحل الوحيد للصراع «العربي- الإسرائيلي»، وأنه على الفلسطينيين حل مشكلتهم بأنفسهم، ووافقه الرأي الكاتب حسين فوزي، وأفصح «الحكيم» عن هذا الرأي في ندوة جرت بين الرئيس الليبي معمر القذافي ومجموعة من ألمع الكتاب المصريين، ونشرت صحيفة «الأهرام» تحت رئاسة الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، آنذاك، ملخصًا للقسم الأول من الندوة عن الإسلام والشيوعية والرأسمالية، لكن «هيكل» رفض القسم الثاني الذي دار حول الصراع «العربي – الإسرائيلي» بسبب رأي «الحكيم وفوزي»، إذ رأى أنه لا ضرورة لنشر هذا الكلام الذي فاجأ القذافي مفاجأة صاعقة، حسب ما يقول «شكري» في كتابه.
رأي «الحكيم» لم يبق في الأدراج، إذ نشرته دكتورة تُدعى سناء حسن، كانت متزوجة من تحسين بشير، مساعد المستشار الصحفي لرئاسة الجمهورية في عهد أنور السادات، في مقال مُطول بصحيفة «نيويورك تايمز»، بعد حصولها على ملف الندوة من أرشيف «الأهرام».
السؤال: كيف حصلت «سناء» التي رأت أن العرب أخطأوا في الحضارة والتاريخ والتقدُّم عندما رفضوا تقسيم فلسطين على ملف الندوة؟.
يجيب «شكري»: «في شتاء 1972، اتصل بي توفيق الحكيم، وقال: أنا بعتلك آنسة ظريفة مصرية من أمريكا تريد أن تتعرف عليك وعلى الجماعة في (الطليعة)، بتحب الثقافة والسياسة، دكتوراه من (هارفارد) يلا ياعم ابسط»، ويضيف: «بعد أقل من دقيقة رأيت أمام الفتاة، وقالت لي إنها تعد دراسة للجامعة حول مواقف الثقافة المصرية المعاصرة من أهم القضايا التي تعني الإنسان المصري وتقلق مصيره حتى ولو لم يكن واعيًا بها، وأنها قابلت المسؤولين السابقين والحاليين، ثم دارت على جميع الزملاء، إلى أن سافرت إلى بيروت، وبعدها بأيام فوجئت بهذا المقال منشور في صحيفة (نيويورك تايمز) بصورة لها، وكانت قد ضمت أرشيف (الأهرام) إلى حقيبتها بهدوء شديد».
حكاية أخرى يرويها «شكري» عن توفيق الحكيم، وهي رفضه الدفاع عن المثقفين المعتقلين في عهد جمال عبدالناصر، أو التوسط لدى الرئيس للإفراج عنهم، بعدما تهرب من لقائه، وهو اللقاء الذي كان سينقذ مئات الضحايا من المعتقل.
يقول «شكري»، إن «الحكيم» كان الأديب الوحيد الذي يعد بحق كاتب النظام من قبل أن يوجد النظام، إذ اعترف «عبدالناصر» بأنه تأثر بروايته «عودة الروح» تأثرًا عميقًا، وأنه استوحى من الرواية «ثورة» يحاول استكمالها، كما فاز بأرفع وسام في الدولة (لا يعطى إلا لرؤساء الدول)، وأيّد ثورة 23 يوليو، ووُصف بأنه «أبوها الشرعي»، وبارك إجراءات «عبدالناصر»، فقط كان خلافه معه «الوحدة مع سوريا».
في عام 1959، والرواية هنا على عهدة «شكري»، دقّ جرس التليفون في بيت توفيق الحكيم، وقال الخط الثاني: الرئاسة تسأل توفيق بك ما إذا كان يمكن أن يشرب الشاي مع الرئيس بعد الظهر، وارتج الأمر على «الحكيم»، فطلب مهلة دقائق للرد، ثم اتصل بـ«هيكل» فأجابه: «أبدًا.. الرئيس عاوز يشوفك، طبعًا سمعت باللي حصل، عاوز يسمع رأيك»، فاعتذر الحكيم، وبدوره اعتذر هيكل نيابة عنه لـ«عبدالناصر»، بدعوى أن «الرجل عجوز ولا يدرك من الأمور التي تجرى شيئًا، ومن الأفضل لسمعته أن يكون بعيدًا حتى لا يتهمه أحد أو يشك فيه».
كان «هيكل» يقصد بـ«اللي حصل» إلقاء الأجهزة الأمنية القبض على عدد من المثقفين، وكان «الحكيم» يعلم ذلك، إذ أخبره بما حدث الأديب نجيب محفوظ في اتصال هاتفي معه، وطلب منه التوسط لدى الرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان يثق فيه لـ«إنقاذ سمعة النظام من هوس الأجهزة الأمنية».
ماذا كان رد «الحكيم» الذي أراد «عبدالناصر» لقائه لمعرفة رأيه فيما حدث؟.. يجيب «شكري» في كتابه: «قال الحكيم لنجيب محفوظ: يا نجيب دول بيقبضوا عليهم لأسباب مالهاش علاقة بالفكر والأدب، دول لهم صفتين، صفة المثقف، وصفة السياسي، إحنا ندافع بس عن المثقفين، لكن الناس اللي عايزه السلطة مالنا ومالهم؟».
يضيف «شكري» في كتابه: «أراد الحكيم أن يغسل يديه من دماء الأبرياء، فكتب عام 1959 مسرحيته الشهيرة (السلطان الحائر)، ذلك السلطان غير الشرعي، والذي لابد أن يكتسب شرعيته بصوت الشعب والقانون، لا بالسلطة والسيف، وكان واضحًا رغم الديكور الملوكي الذي أضفاه على المسرحية أنه يقصد النظام المصري الراهن، وأنه يثق إلى أقصى الحدود بجمال عبدالناصر، لكنه يحذره من الوزير والقاضي والمؤذن والسيف».