كل البنات في ذلك الحى الشعبى لديهن أحلام كثيرة وكبيرة، لكن «كاميليا» كان لديها حلم واحد وحيد، وهو أن تسافر إلى بحر إسكندرية وتعوم فيه. كاميليا فتاة فقيرة يتيمة الأبوين، حالها البسيط يتناقض تماما مع اسمها المأخوذ من زهرة فرنسية، وطبيعتها الحالمة لم تسمح لها بالاستمرار في أي عمل، ولم تكن جدتها تتذمر من ذلك، فقد كان معاش جدها الراحل الشاويش «غريب» يكفى لتوفير اللقمة والستر، في المساء كانت كاميليا تحتضن الراديو الترانزستور وتجلس وحيدة في زاوية تستمع إلى إذاعة أم كلثوم، وتتمنى أن تسمع أغنية نجاة «أنا بعشق البحر».
كلما سمعت هذه الأغنية تشعر بشجن غريب لا تعرف مصدره وحنين يغلبها للحاضر الغائب،حفظت الكلمات واللحن وكانت تدندن به في خلوتها، وعندما تسألها جدتها، أو واحدة من بنات الحتة: «اشمعنى البحر يا كاميليا؟» كانت تجيب: مش عارفة. في الصيف الماضى دق الشيخ عبدالهادى خطيب الجامع باب منزل المرحوم الشاويش غريب، وطلب يد كاميليا لابنه عمر، مشرف عمال في مصنع نسيج، ورحبت الجدة وانطلقت زغاريد الأقارب والجيران الذين حضروا الخطبة، وقبل قراءة الفاتحة أصر الشيخ عبدالهادى أن يسمع رأى كاميليا ويسألها بنفسه عن شروطها في الشبكة والمهر، وطأطأت الفتاة رأسها في خجل لكن أمام إصرار الشيخ قالت بصوت هامس: «أنا ليا طلب واحد.. نفسى أشوف البحر»، وضحك الحاضرون، وبعد شهور تم الزفاف، وبعد انصراف المعازيم بشر عمر عروسه أن والده استأجر لهما شقة لقضاء أسبوع عسل في الإسكندرية حسب شرطها الوحيد للزواج. لم تنم كاميليا ليلتها، وظلت تحلم بلقاء البحر، وفى الإسكندرية وقفت أمام البحر وقلبها يخفق بشدة، ولم تنتظر أن ينتهى عمر من النقاش مع مؤجر الشماسى، وتحركت قدماها نحو الأمواج التي تمتصها رمال الشاطئ بنعومة في رحلة لا تنتهى، ونظر إليها عمر باسما، كانت تخطو نحو الداخل حتى وصلت المياه إلى ركبتيها، كانت تريد أن تعوم كالآخرين.داعبها عمر قائلا: «تعومى مرة واحدة.. طب بلبطى على ادك.. دى أول مرة تنزلى البحر».
وطلبت منه أن يعلمها العوم، فوضع يديه على سطح الماء ليعلمها الطفو.. كانت سعيدة والماء يخترق ملابسها ويلمس جلدها، وتختلط لمساته مع لمسات يد عمر التي تثير فيها نشوة غامضة. وكأن عمرها كله امتدّ على صفحة الماء التي لاتريد ان تفارقها، بدأ الجوع والملل يتسرب إلى نفس عمر، فهو على عكس كاميليا لايحب البقاء في الماء طويلا ويكتفى بغطسة واحد والخروج للتمدد على الرمل وتناول الساندوتشات التي احضروها مع الحاجة الساقعة، تحجج بالجوع وطلب منها أن يخرجا لتناول الطعام وقال لها بحب: مش كفاية كده ياعروسة مجوعتيش انا هموت من الجوع،«لكنها طلبت منه بدلال أن يتركها تنعم بالماء قليلا على أن تلحقه...وافق عمر وخرج من البحر واعطى ظهره لكاميليا، متجها للشمسية التي حجزها، ما ان وصل إلى المقعد المجاور لها حتى سمع صراخ وعويل يأتى من جهة البحر،» الحقونا البنت غرقت، ياناس الحقونا ....البنت مش باين لها أثر «شعر بأنقباض ،استدار بسرعة وعاد من حيث أتى، زاحم الناس، كان يبحث بعينيه عن كاميليا في البحر، لكن لم يظهر لها أثر، سمع همهمات الحاضرين عن البنت التي غرقت،لم يستطيع ان يستوعب ما حدث ...معقول دقائق معدودة غابت عن عينيه فأبتلعها البحر، هل ابتلعها البحر ام هي التي احتضنته للأبد ... لحظة ألم موجعة ...لكن ربما فسرت له سر ذلك العشق الغامض بين كاميليا والبحر....ذهبت كاميليا إلى حيث ارادت ولم يبق منها إلا عطر الحكاية.
EKTEBLY@HOTMAIL.COM