يرضيك يا عُمدة

عبد الناصر سلامة الأحد 09-08-2015 21:32

ما هو ملاحظ من العمدة أبوحميدة فى الصورة الشعرية، يرضيك يا عمدة، أنه على الرغم من قيام ابنه حميدة، بقذف الصبيّة بالسفندية، إلا أن العمدة المذكور لم يرُد على الشكوى كما يجب، أو بشكل عملى، فكان الرد فى كل مرة، هه هيه، أو لا لا لا، جرى إيه، عمل إيه، وكلام من هذا القبيل، دون اتخاذ موقف يليق بالحدث، فقد وقعت السفندية على صدر البنيّة أو الصبيّة، مما أضحك زملاءه الأفندية، ومع ذلك لم يُحرك ذلك العمدة ساكنا.

العمدة هنا كان ضعيفا لا يحسم، ولم يحكم بالعدل، بل لم يحكم أساسا، خصوصا أن المتهم ابنه، أو فلذة كبده، وهو التعبير الذى سوف يستخدمه محامى الدفاع فى المحكمة، إلا أن ما أثار الانتباه، هو أن الصبيّة الواقع عليها الضرر، استطاعت أن تصل إلى ذلك العمدة فى عقر داره، لتقص مظلمتها، على الرغم من انتشار الخفراء، بقيادة شيخهم، وهناك نائب للعمدة، وهناك شيخ البلد، أو أكثر، وهناك أقارب العمدة، يلتفون حول الدوّار طوال الوقت، وهناك المتطفلون، والمتسكعون، وغير ذلك من الروّاد.

كل ذلك لم يُثن صاحبة الشكوى عن التوجه إلى دوّار العمدة مباشرة، وقد بدا واضحا أنها لم تجد معاناة فى الوصول إليه، وإلا لكانت قد بدأت شكواها، بالإشارة إلى ذلك الخفير الذى أعاقها، أو هذا القريب الذى تعدى عليها، أما لماذا لم يمنعها أحد، أو يتصد لها أحد، فذلك هو موضوعنا، فقد تضمنت حواديت الأزمنة الغابرة قصة حقيقية مشابهة لحالة ذلك العمدة، مقارنة بعمدة إحدى القرى المجاورة، وها هى الأيام تدور دورتها.

العمدة أبوحميدة هنا ليس عليه ثأر لأحد، فقد أصبح فى هذا المنصب الرفيع بتوافق أهالى القرية، ليس على جثث أبنائها، كما فعل ذلك العمدة الطاغية فى القرية المجاورة، أصبح العمدة أبوحميدة يشارك فى الأفراح والأتراح دون خوف، ودون قلق، هو تمثيل حقيقى لأهالى القرية، أما فى القرية المجاورة، قد يكون مجرد تحرك العمدة يميناً أو يساراً مكلفاً جداً، حراسات من كل نوع ولون، وتعطيل أعمال، وإغلاق شوارع، واعتقالات مسبقة، لذا فهو ومن حوله يفكرون ملياً قبل المشاركة فى أى حدث، خاصاً كان أو عاماً.

العمدة أبوحميدة، رغم أنه لم ينصف الصبيّة، ينام قرير العين إلى حد كبير، ليس كالعمدة الآخر، الذى تبدو علامات الرعب على وجهه طوال الوقت، العمدة أبوحميدة يُحب كل من حوله، عكس الآخر الذى يخشى كل من حوله، ولم لا؟، فحينما ترشح لانتخابات العمدية بالقرية، كان كاللهو الخفى، لم يره أحد، يسمعون عنه أساطير محبوكة ومزيفة، والغريب أن أنصاره وميليشياته كانوا كلما أمعنوا فى القتل والتنكيل بالخصوم، ازدادت شعبيته وحصل على مزيد من الأصوات، فهو عمدة منتخب طبقا للقانون، وعلى الرغم من ذلك لم يجد ترحيبا من القرى المجاورة أبدا، فهم يعلمون الحقيقة كاملة.

لذا فالعمدة أبوحميدة يشارك فى كل مناسبات القرى المجاورة، الفرح، والحزن، والطهور، والسبوع، والموالد، والأعياد، وما شابه، إلا أن أخانا الآخر لا يستطيع أن يفعل أيا من ذلك، كما هو الحال فى قريته تماما، فهو خارج القرية أيضا مطارَد، هناك الكثير من أبناء قريته، هجروها إلى القرى الأخرى فى انتظاره، يفسدون عليه زياراته، وهناك من بين أبناء هذه القرى من يطلبون من عمدتهم عدم التواصل مع هذا العمدة المفترِى والقاتل.

حاول العمدة القاتل أن يستميل الناس بشتى الطرق، على مستوى الداخل، قام بتطهير ترعة القرية، على الرغم من أنها لم تكن تحتاج ذلك، ولكن أملا فى استرضائهم، هو يعرف أهمية الترعة بالنسبة لهم، هم لا يغتسلون فيها، أو يتنزهون من خلالها فقط، هى تمثل لهم قيمة كبيرة، وعلى مستوى الخارج حاول شراء ذمم القرى الكبيرة بشراء منتجاتهم، وقد نجحت هذه المحاولات وتلك إلى حد كبير، إلا أن ذلك لم يدم طويلا، خصوصا أن هناك بين هذه القرى من تحكمهم تقاليد وقوانين وأخلاقيات.

باختصار، كانت حياته أشبه بالجحيم، حتى وإن استطاع أن يبدو بما هو غير ذلك، أبناء القرية أصبحوا يتضررون من هذا الوضع، هو لا يستطيع أن يتواصل مع المركز أو المحافظة كما يجب لإنجاز مصالح أبناء قريته، كما لا يستطيع مجاملة أبناء الكثير من القرى والمراكز الأخرى فى مناسباتهم، وبالتالى لا أحد يجامل أبناء قريته، هم اكتشفوا بعد فترة وجيزة مدى الضرر الواقع على قريتهم جراء هذا الوضع، هى أزمة حقيقية، لابد من البحث عن سبيل لحلها، ولكن كيف؟

الجديد، أنه مع ارتفاع نسبة التعليم، وانتشار وسائل التواصل، أصبح هناك بين أبناء القرية من يردد أن العمدة أبوحميدة ليس أفضل حالا من عمدتهم، لأنه لم يُنصف هذه المظلومة من جبروت ابنه وماطلها فى ذلك، أى أن الحال من بعضه، لكن بالتأكيد كارثة عمدتنا أكبر، هكذا قالوا، قد يكون فى الحالة الأولى الرجل ليس عادلا إلى حد ما، إلا أنه فى الثانية قاتل، ونصاب، ونهايته حتما سوف تكون مأساوية، الدماء فى رقبته كثيرة، ومن كل حدب وصوب، فى الحالة الأولى قد يسعى إلى تصحيح هذه الأوضاع، بإنصاف الصبية المظلومة، أما فى الثانية فلا سبيل للإصلاح، مادام لم يسدد القصاص، والمطلوب هنا هو شخصيا.

كما توقعنا، النهاية كانت مأساوية، لكن بعد خراب مالطا، الرعية دائماً يدفعون الثمن، لكن يبدو أنهم يستحقون، ففى الحالتين كانوا أغبياء، فى الأولى حينما لم يستنكروا ما وقع على الصبيّة من ضرر، حيث كان ردع حميدة ممكنا، وفى الثانية حينما انتخبوا ذلك المسجل خطر بحكم الواقع، فلم يكن يعقل بأى حال أن يكون عمدة القرية، ولا أى قرية، من المجرمين الذين يطاردهم القانون، وينتظرهم الثأر، وعلى الرغم من ذلك وامتداداً لحالة الغباء، ظل أبناء القريتين فى جدال المفاضلة بين العمدتين حتى الرمق الأخير، على الرغم من أن المقارنة كانت ظالمة، بل ربما تناسوا الظالم تماما، وظلوا فى حالة الغيبوبة يخاطبون الآخر: يرضيك يا عمدة.