لو كُنت ترى أن الشخص النصاب أو الشرير هو أخطر أصناف البشر، ففى السطور القادمة دعوة لإعادة التفكير فى هذه الخُلاصة.
هذا الكُتيب العجيب وقع فى يدى بالصدفة. عنوانه The Basic Laws of Human Stupidity، أى «القوانين الأساسية للغباء الإنساني». مؤلفه مؤرخ اقتصادى إيطالى يُدعى «كارلو شيبولا»، ونُشر لأول مرة فى 1976 وأُعيد نشره بعدها مرات عديدة. الكتاب يتحدث عن الغباء والأغبياء. يُحاول أن يضع «قوانين عامة» لتفسير سلوكهم والوقوف على تأثيرهم البالغ فى الحياة. يفعل ذلك بأسلوب مرِح يُحاكى اللغة الأكاديمية المنضبطة، ويسخر منها فى الوقت نفسه.
القانون الأول للأغبياء يقول: «ينزع الجميع دوماً إلى التقليل من عدد الأغبياء فى محيطهم». المعنى أن عدد الأغبياء حولنا هو، على الدوام، أكثر من توقعنا!
الغباء ليس له علاقة بالوسط الاجتماعى أو المستوى الثقافى أو العرق أو الجنس. الغباء موجود بنفس النسبة فى الدول المتقدمة والمتخلفة على حد سواء. إنه موزعٌ بالتساوى بين متوسطى التعليم وأساتذة الجامعات. وكما تحافظ الحياة على نسبة ثابتة من الذكور إلى الإناث، فهى تحافظ أيضاً على نسبة ثابتة- ولا نهائية!- من الأغبياء فى أى مجتمع أو جماعة أو وسط. القانون الثانى يقول إن احتمال أن يكون الشخص غبياً لا علاقة له بأى صفة أخرى من صفاته أو خصائصه أو انتماءاته.
ولكن ما هو الغباء؟ ما الذى يجعل من الشخص غبياً؟ الغباء- ببساطة - هو أن تخسر وتجعل الآخرين يخسرون فى نفس الوقت.. كيف؟.
ثمة أربعة أصناف من البشر. الصنف الأول، وهو نادر، يضم الأذكياء. هؤلاء يبرعون فى الحصول على المكاسب ويجعلون الآخرين يكسبون. من ذلك مثلاً المُدير الناجح الذى يُخرِج أفضل ما فى مرؤوسيه، فينجحون وتنجح المؤسسة بهم.
الصنف الثانى هو الضعفاء العاجزون، أو السُذج. هؤلاء يخسرون على طول الخط، ولكنهم لا يتسببون فى أذى للآخرين. الصنف الثالث هو النصابون. هؤلاء يكسبون عبر خسارة الآخرين. والنصابون ليسوا فئة واحدة، النصابون درجات. النصاب المحترف، وهو أقرب للذكى، هو الذى يكون قدرُ مكسبه مساوياً بالضبط لحجم خسارتك. مثال ذلك اللص الذى يسرق منك مائة جنيه. يصبح مكسبه هو الجنيهات المائة، وخسارتك هى نفس هذا المبلغ. لكن ما قولك فى النصاب الذى يقتلك من أجل سرقة ساعتك وخمسين جنيها فى حافظة نقودك؟. هذا نصّاب غبى. مكسبه الضئيل لا يكافئ الخسارة الهائلة التى قد يتسبب فيها.
بإمكاننا الوقوف بسهولة على منطق التفكير الذى يُحرك سلوك النصاب. النصّاب، فى النهاية، يسعى وراء المكسب. الغبى- فى المقابل- لا يفكر بهذه الطريقة. القانون الثالث للغباء الإنسانى ينص على ما يلى: «الغبى هو الشخص الذى يتسبب فى خسارة لشخص آخر أو مجموعة أشخاص دون أن يجلب لنفسه نفعاً من وراء ذلك الفعل، بل إنه قد يتكبد خسارة أيضاً».
الشخص الغبى لا منطق واضحاً يحركه. دوافعه غير مفهومة. «الغبى سوف يتحرش بك بلا سبب. بلا مزية معينة يكسبها. بلا خطة أو مشروع محدد. سيفعل ذلك فى أكثر الأوقات والمواقف غرابة». بالتالى، من المستحيل التنبؤ بسلوكه أو تصرفاته. القانون الرابع يقول إن الأشخاص غير الأغبياء دائماً ما يستخفون بالقدرة التدميرية الهائلة للأغبياء. غالباً ما يُداهمنا الأغبياء من حيث لا نحتسب. حتى فى حالة علمنا بـ«هجوم الأغبياء»، فلا سبيل لتنظيم دفاع منطقى لأن الهجوم ذاته يفتقر إلى أى منطق!
القانون الرابع يحذر من التعامل مع الأغبياء. يحذر حتى من استخدامهم أو تسخيرهم لأغراضنا. قد ننجذب أحياناً للاستعانة بالأغبياء على أساس أننا نتفوق عليهم فى الذكاء، وبالتالى سوف نتمكن من توجيههم. ولكن بسبب طبيعة الغباء نفسه، وما تنطوى عليه من استحالة التنبؤ بسلوك الشخص الغبى، فإن استخدام الأغبياء أو تسخيرهم غالباً ما يقود إلى مآسٍ.
«الشخص الغبى هو أخطر صنوف البشر قاطبة». هذا هو نص القانون الخامس والأخير للغباء الإنسانى. الغبى أخطر من النصاب. خطورته تزداد إذا ما احتل مركزاً من مراكز السلطة. كثيراً ما كان يحدث هذا فى الماضى بسبب الارتكان إلى الطبقة والعائلة فى انتقاء النخب الحاكمة. العصر الحديث قضى على الطبقة والعائلة، ولكنه استبدل بهما الديمقراطية. الديمقراطية ـ كما يقول المؤلف ساخراً ـ تمثل آلية مثالية لتمكين الأغبياء من السلطة، ومضاعفة تأثيرهم المدمر والخطير فى المجتمع (لو عرف المؤلف بتجربة الإخوان المسلمين فى مصر لضمها بالقطع إلى قائمة النماذج الصارخة على هذه الفكرة!).
انتشار النصابين فى المجتمع لا يؤدى إلى تخلفه أو تقدمه. النصابون، فى نهاية الأمر، يحصلون على مكاسب نتيجة خسائر للآخرين. ما يفعلونه هو نوع من «إعادة التوزيع» من دون زيادة للناتج. الأذكياء، بدورهم، يراكمون المكاسب للمجتمع ككل. أما الأغبياء فلا يتسببون سوى فى خسارة خالصة.. للجميع. كلما زادت أعدادهم، صار المجتمع أكثر تعاسة وفقراً.
القوانين الخمسة للغباء الإنسانى تبدو، للوهلة الأولى، كمزحة. غير أن الكتاب يصلح دليلاً عملياً للتعاطى مع الأغبياء، أو بالأحرى الابتعاد عنهم والفرار منهم، كلما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً. وبرغم ذكاء المؤلف وخفة ظله، إلا أن المتنبى يظل أفضل من لخص معضلة الغباء والأغبياء تلخيصاً موجزاً معجزاً بقوله: «لكل داء دواء يستطب به... إلا الحماقة أعيت من يداويها».