تختار الشعوب ممثليها والمعبرين عنها بماء القلب، لا مثل السياسة عبر صناديق الاقتراع، لكن بمدي الثأثير في وجدان ملح الأرض، والانتماء إلى الأرض الطيبة، ونوافذ الروح الرحبة، وهكذا اختار الفلسطينيون محمود درويش، «واحدًا من أهل هذا البحر»، يحمل عبق تاريخ الجليل إلى مريدي شعره، ورائحة برتقال يافا إلى كل العالم.
«كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً لا تطلُّ على البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القرى تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيدًا أَعادوا بناء المتاريسِ».
قدم الناقد رجاء النقاش، محمود درويش، إلى القارئ المصري، في الستينيات من القرن الماضي، في مقال «مطلوب محاولة عالمية لإنقاذ هذا الشاعر»، لأنه كان معتقلًا حينها في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بتهمة الشيوعية، كما قدمه الروائي الفلسطيني غسان كنفاني في كتابه «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة».
«أَسْماؤُنا شَجَرٌ مِنْ كَلامِ الإِلهِ، وَطَيْرٌ تُحَلِّقُ أُعَلْى مِنْ الْبُنْدُقِيَّةِ.
لا تَقْطَعوا شَجَرَ الاسْم يا أَيُّها الْقادمون مْنَ الْبَحْرِ حَرْبَاً
وَلا تَنْفُثوا خَيْلَكُمْ لَهَباً في السُّهول
وَلَكُمْ دينُكُمْ وَلَنَا دينُنا فلا تَدْفِنوا الله في كُتُبٍ وَعَدَتْكُمْ بأَرْضٍ على أَرْضنا كَما تدّعونَ
وَلا تَجْعَلوا رَبَّكُمْ حاجِبِاً في بلاطِ المْلَكِ !
خُذوا وَرْدَ أَحْلاَمنا كَيْ تَرَوْا ما نَرى مِنْ فَرَحْ !
وَناموا على ظِلِّ صَفْصافِنا كَي تَطيروا يَماماً يَماماً
كَما طارَ أَسْلافُنا الطِّيبونَ وَعادوا سَلاماً سَلاماً.»
محمود درويش، المرتحل في رحاب الله قبل سبع سنوات من الآن، ولد 1941 في قرية البروة، في الجليل قرب عكا، لجأ مع أسرته إلى لبنان عقب النكبة، والتي عادت متسللة 1949 بعد توقيع اتفاقيات الهدنة، انتسب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي بعد إنهاء تعليمه الثانوي، وعمل صحفيًا، واُعتُقِل مرات عديدة، حتى انتقاله إلى القاهرة، 1972، ثم إلى لبنان فيما بعد، حيث عمل في مؤسسة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يستقيل من اللجنة التنفيذية للمنظمة احتجاجًا على اتفاقية أوسلو.
«مثلما سار المسيحُ على البُحَيْرَةِ سرتُ في رؤيايَ.
لكنِّي نزلتُ عن الصليب لأَنني أَخشى العُلُوَّ، ولا أُبَشِّرُ بالقيامةِ.
لم أُغيِّرْ غَيْرَ إيقاعي لأَسمَعَ صوتَ قلبي واضحاً.
للملحميِّين النُّسُورُ، ولي أَنا: طوقُ الحمامةِ، نجمةٌ مهجورةٌ فوق السطوح، وشارعٌ مُتَعرِّجُ يُفْضي إلى ميناءِ عكا».
دخل «درويش» في غيبوبة إثر إجراء عملية قلب مفتوح، أدت إلى وفاته في أمريكا 9 أغسطس 2008، ووري جثمانه الثرى في 13 من الشهر نفسه في رام الله، وكتب على ضريحه «من الوطن إلى محمود درويش».
«كأنني قد متُّ قبل الآن
أَعرفُ هذه الرؤيا، وأَعرفُ أَنني
أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ.
رُبَّما ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما».
تنوعت كتب محمود درويش ما بين الشعر والنثر والمقالات، ومنها، عاشق من فلسطين، وآخر الليل، ويوميات الحزن العادي، ووداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام، ومديح الظل العالي، وذاكرة للنسيان، ولماذا تركت الحصان وحيدًا، وجدارية، ولا تعتذر عما فعلت، وفي حضرة الغياب.