يوم الخميس كنت فى مدينة أصيلة المغربية التى تستلقى هادئة على شاطئ المحيط الأطلنطى فى أقصى شمال غرب المغرب.
يومها.. وقف الدكتور زياد الدريس، مندوب السعودية الدائم لدى منظمة اليونسكو فى باريس، ليتكلم فى واحدة من ندوات منتدى أصيلة الثقافى الدولى الذى يقام فى هذا الموعد من كل عام.
روى الدكتور زياد أنه ذهب قبل عدة أعوام فى رفقة الوزير محمد بن عيسى، أمين عام المنتدى، إلى جولة فى شوارع المدينة الحالمة الصغيرة، وأن شيئا بسيطا جدا فى أثناء الجولة قد حدث، وأن هذا الشىء رغم بساطته الشديدة هو الذى خلق من أصيلة فى تقديره مدينة أخرى تماما لا علاقة لها بالمدينة التى كانت قائمة قبل أن يقام فيها منتداها السنوى!
أما الشىء فهو أن عدداً من الشباب كان يجلس على الشاطئ وأمامهم أوراق ممزقة ومرمية فى عرض الشارع، ولم يفعل بن عيسى وزير الخارجية والثقافة السابق فى بلاده وسفيرها فى الولايات المتحدة لسنوات سوى أن انحنى على الأوراق وراح يلملمها فى رفق وفى هدوء ليأخذها إلى أقرب سلة قمامة، ثم يضعها ويعود من بعدها يستكمل جولته!
لقد فعل ذلك دون أن يوجه كلمة إلى الشباب الجالس، ودون حتى أن يلتفت إليهم، وكأنه على نحو غير مباشر قد أراد أن يعطيهم درسا عمليا دون أن يقف واعظاً فيهم، ودون أن يستهلك وقته فى كلام يعلم مسبقا أنه لن يؤدى إلى شىء ما لم يقترن بفعل!
وكان الفعل من جانبه أنه حمل الأوراق الممزقة بيديه وألقاها حيث يجب إلقاؤها، وكأنه أيضا أراد أن يقول دون حرف على لسانه إنى أتصرف هكذا مع مدينتى الصغيرة، وإنى أريد من كل مواطن فيها ومن كل مقيم أو زائر أن يتصرف بالطريقة نفسها، وإن المسؤول فى أى بلد عربى ما لم يكن يمثل قدوة حية على الأرض أمام مواطنيه فإن الرهان على تحقيق شىء جاد فى حياتنا سوف يبقى رهاناً على سراب!
لم تكن صدفة إذن أن يعتلى الوزير بن عيسى منصة الحديث بعد الدكتور زياد فيقول إن عدد أبناء أصيلة 33 ألفا و600 مواطن، وإن عدد الموجودين فيها حاليا قد بلغ 150 ألفا، وإن الفارق إنما هو من السياح الذين سمعوا عن مدينة جميلة فجاءوا يقضون فيها وقتاً طيباً!
وإذا ما حسبتها أنت بالورقة والقلم اكتشفت أن عدد أبنائها قد صار مضروبا فى خمسة، وأن العائد من وراء ذلك عليها، ثم على المغرب كله، إنما هو عائد صناعة كبيرة اسمها صناعة السياحة، وأن هذه الصناعة ليست فهلوة، وأن لها قواعد وأصولًا، وأن هذه القواعد والأصول تبدأ من المنظر العام فى الشارع، وأن التقاط الأوراق الممزقة كان هو الخطوة الأولى إلى هذا كله، وأنه لا شىء يأتى من فراغ!.. لا شىء!